بعيدا عن موقف الشارع العربي، بنخبه ومؤسساته المختلفة، يبدو ان الاولويات بالنسبة للنظام الرسمي العربي قد تغيرت بعد مرور ما يزيد عن سبعين عاما على الحرب العربية الاسرائيلية بحيث لم يعد امر انهاء حالة الحرب وعودة الامور الى ما كانت عليه قبل العام 1948 شرطا لقبول العرب باسرائيل كيانيا طبيعيا ومقبولا من الدول العربية، بل ان بعضهم شبه الحالة الرسمية العربية وموقعها في العادلة الشرق اوسطية بشكل اسوأ مما كانت عليه قبل ان تضع شروطها على اسرائيل..
في السابق كان يقال ان التطبيع مع اسرائيل سيأتي بشكل تلقائي عندما يتم توقع اتفاقيات سلام تستجيب للحقوق العربية والفلسطينية، اما اليوم فان التطبيع يأتي بالمجان وفوقه اثمان تدفعها العديد من الانظمة العربية، اي ما كانت تطلبه اسرائيل في السابق اصبح من الماضين وما تريده اسرائيل اليوم بات ابعد من تطبيع، بل سياسات واجرارت تقوف في بعض الاحيان الوصف نظرا لفجاجتها. فمنذ ما قبل الاعلان عن كيان العدو، كان المحور الاساسي الذي يحرك الحركة الصهيونية هو مدى قبول اسرائيل في المحيط العربي.. اما الآن فقد اصبحت قضية التطبيع مقننة بموقف عربي جماعي (مبادرة السلام العربية)..
لم تكن العلاقات الاسرائيلية وقنوات التواصل العربية الاسرائيلية مسألة خافية على من هم من أهل السياسة بشكل عام والمتخصصين في مسألة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي بشكل خاص، بل كان واضحا ومنذ ما قبل التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد التي فتحت الباب واسعا امام امكانية حدوث اختراقات في الجسم العربي، أن قنوات سرية دائمة كانت تصل تل أبيب ببعض العواصم العربية أن كان على مستوى عالي من التمثيل السياسي او الامني او من خلال نشطاء مقربين من كلا الطرفين، ويمكن التعرف على وقائع عدة من خلال العديد من الوثائق العربية والغربية التي تؤكد بمعظمها ان زعماء عرب كانوا على تواصل مع اسرائيل منذ وقت مبكر.. ولعل العامل ألامريكي، الذي يشكل نقطة ضعف معظم البلاد العربية، كان له الدور الابرز في شق تلك القنوات والمساعي الدائمة لتقريب وجهات النظر وتذليل العقد، بهدف خلق مسارين لحل الصراع الدائر منذ اكثر من 70 عام في الشرق الاوسط، وجعل اسرائيل عضوا طبيعيا داخل الجسد العربي من دون أن يحدث ذلك الوجود أي مضاعفات جانبية لجهاز المناعة العربي الذي اصيب منذ زمن بنقص في الأدراك والمقاومة..
لكن يبقى السؤال المشروع اليوم الذي يطرح نفسه على السنة الكثيرين هو: لماذا تصر بعض الدول العربية على استفزاز مشاعر مواطنيها ومشاعر جميع العرب والفلسطينيين في مقدمتهم، وما الذي يجبر عاصمة عربية على ان تستقبل مسؤولا اسرائيليا وفي الوقت نفسه تصدر بيانا رسميا تؤكد فيه تمسكها بالحقوق العربية وبدعمها للشعب الفسطيني وحقوقه الوطنية، اليس في هذا تناقض بل تكاذب
على الجميع! وهل يمكن تفسير ما يحدث من خطوات تطبيعية مقدمة لمسار تطبيعي عربي يتجاهل القضية الفلسطينية وحل الصراع على قاعدة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني؟
يبدوا أن جهاز المناعة العربي الذي كان محصنا بشكل جزئي ضد البكتيريا الصهيونية التي حاولت، ومنذ نشأتها، أصاب الجسد العربي بأمراض فتاكة متتالية قد أضحى اليوم معدوم القدرات عن تصنيع مضادات تقاوم التخاذل والانبطاح والرضوخ ، إن كان على المستوى الرسمي الذي يبدي ابتهاجا منقطع النظير وحفاوة في أستقبال رئيس الوزراء الصهويني ناتنياهو في سلطنة عمان ووزيرة الثقافة والرياضة المتطرفة والعنصرية ميري ريغيف التي ذرفت دموع التماسيح على وقع نشيد الاحتلال وسرقة الاراضي في أبو ظبي، وتدنس هواء قطر الذي اضطر مرغما على التماهي مع علم أسرائيل وهو يرفرف في الدوحة، او على المستوى الشعبي الذي اضحى مغيبا بشكل خطير ومخيف عن التفاعل مع أي قضية وطنية وقومية، خاصة فيما يتعلق بالعدو الاسرائيلي، فشرعنت وجوده الاجرامي الاحتلالي الذي يتخذ خطوات عملية وميدانية متسارعة بهدف توجيه الضربة القاضية للقضية الفلسطينية والنضال الفلسطيني مستندا الى السياسة الامريكية العدائية بقيادة ترامب والذي وعلى ما يبدو راهن رهانا رابحا على حركة الشعوب العربية ونسبة ضجيجها الضعيف عندما قال عقب اعلانه القدس عاصمة موحدة لأسرائيل"انها موجة ظرفية وضجيج فارغ سرعان ما ينتهي"!
أذا كان التطبيع جزءا من صفقة القرن الامريكية، فان الصفقة في هذا الشق قد حققت اختراقات هامة، في ظل هذا المشهد العربي السيء وأصبح في مراحل متقدمة وخطيرة، ويبدو أن القضية الفلسطينية ومعاناة الشعب الفلسطيني ومسيرة نضاله الطويل أصبحت بشكل فعلي في أسفل سلم الاولويات العربية، بل أًصبحت بالنسبة للبعض عبئا ومادة أزعاج وأرق لكثير من العروش والملوك ناهيك عن الانشغالات في الصراعات العبثية التي دمرت الدولة الوطنية في أكثر من قطر عربي..
فهل قطار الحل العربي الاسرائيلي وطريق التطبيع الفعلي مع العدو الاسرائيلي أنطلق دون انتظار الراكب الفلسطيني وفي مسار منفصل عن المسار الفلسطيني؟ ولم يعلل الرئيس المصري أنور السادات خطوة توقيع اتفاق كامب ديفيد مع العدو الاسرائيلي الا بهدف خدمة القضية الفلسطينية حتى جاءت نتائج ذاك الاتفاق بكارثة على مجمل الوطن العربي وفتحت الطريق أمام الكثير من المطبعين.. وكان الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه الوطنية الخاسر الاكبر من تلك الخطوة الآحادية الجانب، ولعل ما نشهده اليوم من مسار عربي تطبيعي بمعزل عن الرؤية الفلسطينية في الحل لن يكون لها الا عواقب وخيمة ستدفع بالمنطقة العربية ككل الى الهاوية خاصة في ظل تعنت الحكومة الاسرائلية والادارة الامريكية ومواصلة عملية سطوهما على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني ضاربين بعرض الحائط بكل قرارات الشرعية الدولية والمبادرة العربية وقرارات جامعة الدول العربية..
وعليه فعلى السلطة الفلسطينية اليوم تقع مسؤولية التصدي وتصحيح المسار بشكل عاجل وفوري وذلك من خلال الابتعاد عن سياسة المواربة وترحيل القرارات المتخذة في اجتماعات المجلس المركزي وما
نتج عن اعمال المجلس الوطني من لجنة الى اخرى ومن هيئة الى اخرى، وترجمة الخطابات والوعود الى خطوات ميدانية وملموسة تشكل نقطة اجماع وطني وطارئ تعالج الفجوة الخطيرة في قارب الحالة الفلسطينية قبل ان تغرق بالجميع.. والعمل الفوري على سحب الاعتراف بأسرائيل وانتهاء العمل بأتفاق اوسلو والتنصل من بروتوكول باريس الاقتصادي واعادة ترتيب البيت الفلسطيني الواحد وتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية لتشكل رافعة للحركة الشعبية الشاملة التي ترفع صوتها مدويا في الميدان في رسالة واضحة للاحتلال والعالم بالتمسك بجميع الحقوق الوطنية كاملة غير منقوصة تحت سقف الشرعية الدولية ،كما يتوجب عليها أعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية بأعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ودعوة الاطار القيادي الاول للاجتماع لوضع الآليات الكفيلة باعادة بناء منظمة التحرير وتمكين مؤسساتها من القيام بأعمالها كافة وضمن رؤية وطنية وشراكة حقيقية بعيدا عن سياسية التفرد والسطو على المؤسسات الشرعية، وهذا ما يضمن تذليل العوائق وتنهي مرحلة من الفتور التي حدثت بين مختلف الفصائل والتنظيمات..
أن السلام العادل والشامل هو ذاك السلام الذي يمر بالقدس عاصمة دولة فلسطين الابدية حاملا على جناحيه اللاجئين الى الاراضي والممتلكات التي شردوا منها وذلك فق للقرار ألاممي 194، ليرسم حدود الدولة المستقلة على حدود الرابع من حزيران من العام 1967 محطما اي شكل من أشكال الاستيطان والكتل السرطانية داخل جسد الدولة المستقلة بالاستناد للقرار ألاممي 2334، وسيبقى الشعب الفلسطيني الذي اعتاد المؤامرات والمكائد صامدا متمسكا بجميع حقوقه الوطنية سواء كان ذلك بشكا منفرد او بدعم اخوته من الاشقاء العرب وحلفاءه من احرار العالم..
بقلم/ جهاد سليمان