صحوت من النوم يوم أمس قبل أن تكمل الشمس نهوضها من العتمة. صباح ياسر عرفات. الفتيان يهتفون "على القدس رايحين شهداء بالملايين"، يملؤون الشارع ضجيجاً وهم يجوبون الشوارع بهتافهم وصراخهم وصخبهم.
كل المدارس في المخيم والمناطق المجاورة خرجت على بكرة أبيها في تذكّر عفوي لياسر عرفات.
وقفت على النافذة أنظر إلى الفتيان الذين لابد أنهم كلهم ولدوا بعد رحيل ياسر عرفات. لم يوجد بينهم من عرفه أو عاش يوماً في زمنه الأبدي.
ومع هذا يتذكرون تاريخ استشهاده كما يتذكرون أسماءهم، يحفظون شعاراته كما يحفظون تواريخ ميلادهم، يعرفون بفطرة الوراثة الوطنية ملامح ياسر عرفات كما يحفظ أحدهم صورته في المرآة. الروح العرفاتية الخالدة وحدها القادرة على هذا.
لم يخرجهم أحد. لم تأتِ قوة وتجبرهم على ترك مقاعدهم المدرسية حتى يجوبوا الشوارع يذكرون تراب الأرض، وأوراق الأغصان، ويافطات المحال التجارية، وشرفات النوافذ، والنسوة الغافيات على الأسرة، والرجال القابعين خلف بقايا أحلام فائتة، وأبواب البيوت الموصدة والنوافذ المشرعة على استهلال النهار الفتي، كأنهم يذكرونهم بأنه يوم ياسر عرفات.
ثمة فطرة خاصة في كل ذلك. الفتية الذين يعرفون ياسر عرفات بالوراثة، كأنهم يولدون وهو معهم، كأن ميلادهم لا يكتمل إلا بنهوض هذا الجين الوراثي داخلهم، جين فلسطينيتهم، إنه الجين الخالص الذي اسمه ياسر عرفات. كنت أنظر إليهم وهم يهتفون بشغف ويجوبون الشوارع بمتعة من يحتفل بذكرى حبيب، وبغضب من يتذكر فراقه.
هل يتذكرون ياسر عرفات؟ لا أحد يعرف مثلاً متى عرف ياسر عرفات. ربما أبناء جيلي لا يستطيعون أن يعيدوا بعض السرد الذاتي عن هذا التعلق بالزعيم الأسمر.
كل ربما لديه حكايته الخاصة. كانت صورة ياسر عرفات في الصحيفة على صغرها (أي الصورة) تبعث فينا ونحن أطفال وفتيان شعوراً خاصاً.
لم يكن ثمة مكتبات في المخيم ولا في مدرسة وكالة الغوث، وربما باستثناء الخمسين كتاباً التي كانت تتوفر في مكتبة أبي الصغيرة (مجازاً، حيث لم تكن إلا خزانة صغيرة) وكانت تضم كتبا من قبيل السيرة النبوية وتغريبة بني هلال وألف ليلة وليلة وبعض كتب التاريخ، فإن البحلقة فيما توفر من الصحف سواء عند شرائها من قبل والدي أو المختار أو حين نفرد قرطاس الفلافل الملفوف من ورق الجرائد، فلم يكن يتوفر شيء نقرأه.
صورة ياسر عرفات في الصحيفة أمامنا ونحن نتناول أقراص الفلافل كانت تشغلني عن الأكل، وأنا أنظر إلى صورتي الأخرى، الصورة التي تسكن كياني.
ومن ثم باتت تتطور الحكايات الشخصية بعد الانخراط في العمل الوطني حتى بات يمكن لكل منا أن يكتب كتابه الخاص عن ياسر عرفات.
عموماً حين يتعلق الأمر بياسر عرفات فإن المؤكد أن كل فلسطيني له حكايته الخاصة مع ياسر عرفات، حكاية تخصه وحده، حكاية تجعل من ياسر عرفات ملكاً له وحده، وبعض الحكايات تصل حد المآثر أو من أن صاحبها يضفي عليها هالة من العجب والدهشة تحملها إلى مصاف المرويات المقدسة، لأننا حين نحب ما نتحدث عنه نبرع في تحويله من منطقي إلى ميتافيزيقي، وبراعة السارد في مثل هذه الأحيان لا تكون إلا بنفس شغف راقص الباليه حين يحمله الإيقاع.
قصص لا تموت، ولا تنتهي، وسرعان ما تظهر للسطح دون استدعاء مصطنع. يكفي أن يجلس الناس في الحارة حتى تقفز سيرة ياسر عرفات فجأة. مثلاً حين يتذكرون قسوة واقعهم، أو مآلات حالهم، أو عذابات التفاصيل التي يعيشونها، وكأنهم يستحضرون الحضور الغائب: ياسر عرفات.
لكن هؤلاء الفتية ليس لديهم حكاية خاصة مع ياسر عرفات. لا يعرفون بالضبط مكاناً التقوا به فيه، أو لا يتذكرون حدثاً دار بينهم وبينه.
يمكن لفتية آخرين ولدوا قبلهم بسنين أن يتذكروا أبا عمار وهو يدخل مدرستهم فجأة يربت على أكتافهم المرتعشة من البرد، وقد يسدل على أحدهم غطاءه، ثم يخطو بيقين الحالم نحو السبورة ويكتب "فلسطين عربية" أو "القدس عربية"، كلمات مقدسة كان عرفات يختصر فيها كل فلسفة التعليم في فلسطين.
لا نريد أن نتعلم شيئاً لا يقودنا إلى الحقيقة الخالدة بأن فلسطين أرض الآباء والأجداد، ألم يكن عرفات واحداً منهم؟ ألم يكن الجد الأعظم للوطنية الفلسطينية؟
سألت طفلي ياسر عرفات الذي ولد بعد ثلاث سنوات من رحيل من حمل اسمه، "كيف خرجتم؟" أجاب بعفوية: حررنا المدارس. الكلمات أكبر منه لكن كلمة تحرير، كأنها، لا تأتي إلا في سياق ذكر ياسر عرفات. اللغة ليست مفردات ودلالات، بل تاريخ أيضاً. وكل كلمة لها تاريخها في المخيال العام، وربما أننا لا نستدعى الكلمات جزافاً ولا اعتباطاً.
لابد أن الفتيان واصلوا مسيرهم ومسيرتهم وتعبت حناجرهم وهم يهتفون خلف ياسر عرفات شعاراته الخالدة التي باتت جزءاً من وعيهم حول أنفسهم وباتوا لا يدركونها دون الإشارة لها.
كان هذا افتتاح صباح عرفاتي بامتياز، صباح يليق برجل جُبل من طين هذه الأرض، وبلل عرقه ذرات ترابها، رجل كان الحكاية كلها من أولها لآخرها، وكان الحلم من مرقده حتى لحظة الصحو.
وحده ربما كان القصة الفلسطينية الكاملة، قصة البعث والموت، قصة السفر والتيه والخلاص الأبدي، قصة الاكتمال والنقصان.
رجل شكل شارة الميناء في عب البحر قبل الوصول للشاطئ، وسارية العلم فوق الجبل.
وحده من استطاع أن يكون الجميع في ذاته ويكون ذاته في الجميع. كان اسمه زمن الاحتلال تهمة، وصورته تهمة، وحبه تهمة، لكن أن تعيش دون هذا الحب أو أن لا تحفظ تلك الصورة أو لا تتذكر كل يوم هذا الاسم كان جناية الوجود.
فالفلسطيني عرفاتي بالفطرة، لأن عرفات أول حبة ملح في هذه الأرض، الحبة التي لا تذوب، ولا تنتهي، والبذرة التي تمتد منها سيقان كل الأشجار.
بقلم/ عاطف أبو سيف