جلسة في ديوان فتح

بقلم: عبد ربه العنزي

مرت ذكرى رحيل القائد الكبير ياسر عرفات، وانهالت الحكايات القديمة عن العصور الأولى للرجل وثورته، وتنوعت موضوعات جدارته وشطارته وبسالته وزعامته، وتداولت الأخبار فصول بطولاته، وكلها محاسن للراحل الكبير لا ينكرها إلا غاشم أو مختل.

لقد اصطفت الأجيال الناشئة والنافقة تستلهم حوادث الرجل لتشير إلى تاريخ مشرف لحركة استعجمت صفحاتها على العرب والعجم وقت أن كان ياسر عرفات رئيسها . فقد كان بيانها فلسطينياً راسخاً. وربما كان الراحل بكل ما فيه من مزايا  أشد الذين عبروا عن القوة والطيبة والثورة والنظام الأبوي -بما له وما عليه- والتسامح والصلابة والرحمة، وقد أظهر أن علة الوقوف على نواقص خصومه الداخليين ليس من طباعه. وأن غاية الانتقام ليست من أسباب استمراره.

رحل الرجل، وكلما مر عام جديد في غيابه، استعصت على فتح المبادرة ، وفقدت بإفراط فاجع ميزان عملها وعلمها في ساحة الناس وقلوب الطيبين وصدور الثائرين، وفقدت أثرها وثبوتها وفوائد وجودها، وأخلت بمذهبها التاريخي الذي كان ينحاز لقضايا الناس وحاجاتهم وأحلامهم.

الفتحاويون (الجدد الطارئون)، وغيرهم من الصادقين المهمشين،  يتشبثون بذكرى الراحل الخالد وبكل ذكرى مشرقة بشكل ينبه عين القريحة إلى أن القوم يبحثون عن هوية الحركة التي فقدوها، عن قيم السلف التي يغالطها الدخلاء والعابرين على الحركة، والتشبث بصور السيلفي في هذه المناسبات يقدم لنا الدليل على عوارض الحركة التي هتكها الملك والسلطان والكسب والمعاش وصنائع الذين عرفوها  في مسالك السلطة ومراتبها وأحوالها ودرجات سلمها الوظيفي. فقد مر أكثر من عقدين لأجيال عرفت فتح السلطة ولم تعرف حركة فتح الثورة.

إن براهين العقل لا تحجب حقيقة الفرق بين فتح الثورة وفتح السلطة، لأن المسافة بينهما هي المسافة بين بذخ القصور وحزن القبور، مسافة تزداد اتساعاً ووعورة لكل المستبصرين، فأولئك الذين عرفوها وقت الثورة أعطوا وما أخذوا. ومن وسعته في زمن السلطة فقد لوث وجهها وقلبها بكل شوارد السلطة ومنافعها. وهؤلاء-فعلياً- هم من يحكمون في فتح الأن.

يعلم الصادقون في فتح، الذين عرفوها زمن الثورة، أن فتح التي تحيي ذكرى رحيل ياسر عرفات، ليس هي فتح التي عاشت معه وقاتلت إلى جواره، وأن البنيان الذي تستند إليه فتح الآن في ظل شدائدها الداخلية، وانقسامها على نفسها، ورحمتها فيما بينها التي ولت، هو بنيان آيل للسقوط. لأن مظاهر نجاحها وصلاحها واستواء أمرها  وتنوعها واختلافها الداخلي البناء تذوي إلى غير رجعة تحت مقر السلطة وتقلب هواها، وخلف أبواب المكاتب الفارهة للسادة المسؤولين.

فتح التي ترفض التجدد، والتجديد، وتصر على شيخوخة جذورها وفروعها، تُخوّن رئيسها، وتُخوّن رجالها، وتفقد شرف خصومتها مع رفاق الدرب وخصوم السياسة، ويقطع رفاق الدرب أرزاق وأعناق بعضهم البعض، وينبري ثلة من "الهفايا" ناطقين باسمها، وتوفر للفاشلين فرص الفوز مرة أخرى بمناصب جديدة، ومواقع متقدمة، وتُعِين الفاسدين على حظوظ التقدم إلى الأمام.

كيف فقدت هذه الحركة أدب العطاء؟ كيف يمكن لأي عابر أن يقف على رأس تشكيل حركي فيها؟ كيف توزع العطايا على المعطوبين؟ كيف يكبر فيها الصغار ويصغر الكبار؟ كيف يمكن أن تملك بصيرتها المنيرة إن لم توقف زلة قدمها في مشروع التسوية. وفي العلاقة مع الاخر الفلسطيني؟ وتوقف أئمة الكذب والنفاق؟ وتعود إلى طبيعتها الأولى التي كانت تدفعنا للموت حبأ في الجنة والوطن؟

لقد آن الأوان أن تبدأ في احصاء الأعداد من الخسائر في كل اتجاه. وتغلق الباب على أشباه الفتحاويين الذين ملأوا بطنها وظهرها وقلبها . فسخروها لخدمة طبائعهم الرخيصة.

هل ظل لها رموزاً حية. يقاتل الناس خلفها؟ هل مركزيتها مستعدة للشهادة؟ والمواجهة؟ وحمل السلاح؟ والعودة إلى القواعد وأصول العمل التنظيمي؟ هل هي جزء من السلطة؟ أم أن السلطة جزء منها؟ هل لها أن تستأنف دورها الريادي لأنها مثلت صمام أمان لتصفية القضية؟ أم أنها تخضع للحتمية التاريخية القائلة أن لكل قوة منحى بياني مآله إلى النكوص، وهذا أوان نكوصها.

ليس مطلوباً من أحد –على عادة الفلسطينيين- أن يفتش عن صدري ليبحث عن سبب ما أكتب ودوافعه، وينسى مضمون ما أقول. دعوا نواياي وما يخفي القلب لرب العالمين.

بقلم/ د. عبدربه العنزي