بعث لي أخي د. يوسف عراقي المغترب عن حيفاه منذ النكبة صورة لتمثال فرس البحر في ميناء عكا للفنّان العكيّ وليد قشاش وكتب لي: "بيسوى تزوره".
رتّبت زيارة لعكّا برفقة زوجتي سميرة صباح الجمعة، وما إن وصلنا الفنار وإذ بوليد ينتظرنا برفقة عيسى على شاطئ عكّا يتأمّل بحرها، فهو الابن البارّ لعكّاه والبحر، حامل رسالتها، وأخذنا إلى مرسمه، لا، بل محرابه!
زرت معارض فنيّة في البلاد وخارجها، لكنّي للمرّة الأولى أزور مرسمًا، دخلته بخشوع، فهو عبارة عن بئر محفورة في باطن الأرض، رمّمها وجعلها مرسمًا فوضويًّا مرتبًا، تعجّ بلوحات وليد على تقنيّاتها المختلفة، لوحات ومجسّمات تغطّي كلّ الجدران، وهناك المُبعثرة التي تنتظر طريقها إلى "مخازنه" المتعدّدة التي تحوي حوالي ألفًا وخمسمائة لوحة! لأنّ وليد فنّان من نوع آخر، يتعامل مع كلّ لوحة وعمل فنّي كوليده، رفض حتّى الآن أن يبيع أيّة من أعماله رغم العروض والإغراءات الماديّة، فهي من حقّ الجميع، على حدّ قوله.
شارك وليد في عشرات المعارض، الفرديّة والجماعيّة، في البلاد وخارجها، له مئات الأعمال واللوحات، وواكب عشرات الفنّانين في بداياتهم.
وليد يحمل ريشة ورسالة وينقل فنّه للأجيال القادمة، شاهدت في حينه جداريّة مقابل مدرسة أورط الكرمل الحيفاويّة قام برسمها مع تلاميذه، وفي زيارتي لعكّا أخذنا إلى ساحة مدرسة التراسانطة الأهليّة لنشاهد رسومات جداريّة خطّها طلّابه على جدران المدرسة!
موضوعاته وموادّه مختلفة ومتنوّعة؛ يستعمل الخشب والصفيح والألوان المختلفة لتمثال "الحاكم" المتربّع على كرسيّه، الخشب والزجاج والألوان المختلفة للوحة "عيون" ، الخشب والصفيح وألوان الإكريليك للوحة "القانون الدولي" الذي تحكمه أمريكا ومصالح إسرائيليّة و"ڤيتو" لانتقاد الموقف الأمريكي المنحاز لإسرائيل ومصالحها حيث يراها عدوّة الشعوب، متسلّطة لمصالحها فتدوس الإنسانيّة وقيمها خاصيةً للأمم المتحدّة وقراراتها، مستعملًا الحديد والبورسلان وألوان الإكريليك للوحة "شرق أوسط جديد" التي هي عبارة عن مجسّم كرسي التواليت يعتليه مجسّم للكرة الأرضيّة ومن حوله يغطّي البراز الجوانب والكرسي تمثّل العلم الأمريكي بألوانه الذي يحكم الشرق الأوسط "الجديد" ويسيّره وِفق مصالحه ، الأحذية ومواد مختلفة لخلق لوحة "العلم" بحجم 240/120 سم! ويرسم لوحة للتعبير عن معاناة الأسرى في السجون الإسرائيليّة ووصل عددهم في حينه سبعمائة وخمسين ألف، يصوّر الحصار المقيت على الفلسطينيّين والتشظّي الذي وصلنا إليه، وبتر غزّة عن الضفّة الغربيّة وغيرها.
لوليد 19 تمثالًا عملاقًا منتشرًا ومنصوبًا في ميادين عكّا وساحاتها العامّة ومنها: "فرس البحر"؛ شامخ في ميناء عكّا العتيقة، صُنع من الحجر الاصطناعي، مطليّ بطبقة من النحاس المصقول للحفاظ على جماله الاخّاذ ويبلغ ارتفاعه ما يقارب الثلاثة أمتار، يخاطب المارّة والآخر بصريح العبارة: "إذا ما كنّا نرغب في أن نعيش بسلام، فعلينا أن نتعرّف على بعضنا بشكل أفضل"، "قم بدورك في جعل هذا العالم مكانًا أفضل"، ليرمز للخير والتفاؤل، وكذلك تمثال "الحوت"؛ المقام في ميناء عكّا بمحاذاة البحر وكتب عليه: "لذكرى من خطفهم الموت السريع وخانهم القدر الفظيع" لذكرى اللذين أحبّوا البحر وأحبّهم فأحتضنهم إلى الأبد مصنوع من الحجر الاصطناعي (1500/400 سم)، "عكّا على مرّ العصور"؛ مصنوع من حديد وحجر في دوّار البلديّة (قطر 500 سم ارتفاع 300 سم)، "عيدان كبريت"؛ المقام في مدخل عكّا الشرقيّ ومصنوع من حديد وحجر (400/200 سم)، والنصب التذكاري للشهداء في عرّابة البطّوف (طول 1300 سم وارتفاع 1500 سم) وغيرها كُثُر.
يؤمن وليد أنّ العربي يعشق الفن بالفطرة، والفنّ التشكيلي الفلسطيني يسمو إلى ذرى المجد سامقًا لأنّه فنّ التجربة والمعاناة الحقيقيّة لشعب اقتلع من أرضه وأمسى لاجئًا! ويستعمل الألوان المختلفة في أعماله؛ الأزرق يرمز للبحر والتحدّي والعنفوان، الأصفر يرمز للصحارى التي يميل لونها إلى البرتقاليّ المائل إلى لون الرطوبة، الأخضر يرمز إلى التراث الذي يعطي إحساسًا بالحياة والاستمراريّة. يستعمل وليد في أعماله الأشياء المهملة مثل الأسلاك، الأقمشة، الأخشاب والأحذية البالية... ليُبدع!!
وجدت في لوحاته رسالة تحدّ وانتماء... لوحات ملتزمة؛ نعم، هناك فنّ ملتزم وليس فنّانًا ملتزمًا! وحكاية شعب، تحكي القضية بريشة فنّان ذي رؤية.. ورؤيا، مرتبط بأهله وبلده، بريشة إنسان وفنّان مرهف الإحساس... مبدع.
قيل: "أعطني مسرحًا أعطيك شعبًا"؛ وأنا أقول: "أعطني فنًّا أعطيك شعبًا"!!
بقلم/ حسن عبادي