قلنا أنه لا بد من وقفتين على طريق مواجهة الأطروحات الكونية في العلوم الزائفة. وقد كانت الوقفة الأولى في المقال السابق مع واقع الأوساط والأعراف العلمية وما تُوجده من مطبات على طريق الخروج من الصندوق العلمي، وفي هذا المقال نناقش التكاليف المعنوية والمهنية وما واجهه بعض العلماء الغربيين عند محاولتهم كشف أيّ من الروايات العلمية التي اعتبروا أنها زائفة!
بداية، أليس من الغريب أن يرى بعض العلماء أن «العلم هو الاعتقاد بجهل الخبراء» (ريتشارد فاينمان(1)) بينما تتنشر الخزعبلات العلمية التي يمرّرها أولئك «الخبراء!» دون أن يتصدى لها العلماء! ولا يجرؤون على اتهام من سبقهم بجهل الحقيقة!
قلنا في أول الكلام ضمن هذا المسار المعرفي إن ثمةَ سطوةٌ للعلم كما للساسة، ولصفحاته هيبة في نفوس البشر كما الأديان، وإن العلماء والهيئات العلمية تصبح أحيانًا قاسية في ردود أفعالها على من يحاول «إعادة النظر» في أطروحاتها. وهذا قد يبدو غريبًا للوهلة الأولى:
هل يمكن أن تكون ممارسة التفكير الناقد في النظريات العلمية مغامرة تستوجب استجماع الطاقة النفسية مع القدرة العقلية والخبرة العلمية؟ هل يُعقل أن تكون للأطروحات العلمية قداسةٌ تستنفر المؤيدين لها عند أي محاولة للتشكيك بها؟ أيمكن أن يكون للعلم سياج عاطفي كما الأديان، وأتباع كما للمذاهب والطوائف؟ أمعقول أن يكون العلماء المنكرون لبعض الأطروحات العلمية محلَ هجوم شخصي أو تهديد مهني؟ كيف يكون ذلك والعلم يُعلي قيمة الحرية الفكرية ويرفض الجمود والتبعية؟
أسئلة كثيرة قد تكون إجاباتها صادمة لدى معاينة الوقائع التي حصلت وتحصل في الأوساط العلمية عندما معارضة طرحٍ علميٍ أُريدَ له أن يصمد.
إن إعادة النظر في الرواية العلمية الكونية التي تعرض رؤية فلسفية للكون ولأصل الحياة لأَمْر جَلَل، وهو نشاط علمي قد يتخذ طابعًا سياسيًا، ذا صبغة كفاحية علمية، وفيه مواجهة جبهة من القدح، من قِبَل من لا يزالون يصرّون على العيش داخل الصندوق العلمي، وممن يُسلّمون بما فيه تسليما قد يفوق تسليمهم بالدين، ومن قِبَل من يتعاطون مع الأطروحات العلمية بما يشبه العقائد. كيف لا وقد ترسّخت في أذهانهم -مثلا- تلك المشاهد المصوّرة لسطح القمر واللوحات الفضائية الفسيفسائية! والصورة -عندهم- أصدق من إنباء من الكتب، ولو كانت مزيفة!
إن تكاليف الخروج من ذلك الصندوق العلمي قد أخذت أشكالًا عديدة، وكلّفت أصحابها كتكاليف أصحاب الدعوات وروّاد التغيير، خصوصًا في ظل الأوساط والأعراف العلمية المعاصرة التي بيّناها في المقال السابق.
ولذلك قلّما يمارس العالمُ أو الأكاديميُ التفكيرَ الناقدَ أو التشكيكَ بطرح علمي يحظى باهتمام فلسفي خاص، أو قد تمّ تلقيه مع الأيام بالتسليم دون تمحيص، وخصوصا إذا شعر بتهديد بفقدان الوظيفة الأكاديمية، أو فقدان مصادر التمويل للأبحاث، أو سد أبواب النشر في المجلات العلمية، أو سحب بساط المنصات في المؤتمرات العلمية من تحت رجليه، أو خشي من اهتزاز صورته الأكاديمية التي يجهد سنين عمره يرسمها حول نفسه، ويزداد عزوفه عن ذلك عند استشعاره خطورة المحاصرة في دائرة الارتياب من قبل الزملاء الأكاديميين، التي قد تُمارس أحيانا بفظاعة تصل إلى حد الازدراء، وربما القمع.
ومن دون الإسهاب في عرض كثير من النماذج مما واجهه علماء غربيون عندما شكّكوا أو كذّبوا ببعض الأطروحات العلمية، أشير هنا إلى حالة سأتحدث حولها في حلقة لاحقة حول الاحتباس الحراري، تُبرِز جانبًا من التكاليف المعنوية والأكاديمية التي واجهها عالم الفيزياء إيفار جيفيير (Ivar Giaever) الحاصل على جائزة نوبل لعام 1973، عند معارضته العلمية لنظرية الاحتباس الحراري، وعندما قال أنها تُطرح كدين جديد لا يُسمح بتكذيبه، ثم يجيب على من يقول له، إذا واجهت العلماء بالرفض فإن مجلة نيتشر (الشهيرة) لن تنشر أبحاثك، قائلا: أنا لا أنشر فيها أصلا. في مشهد يُلخّص واقع الأوساط العلمية وتكاليف المواجهة الأكاديمية.
ولتعزيز الفكرة، أُشير أيضا إلى ما جاء في محاضرة للدكتور إياد قنيبي حول ما تعرض له العالم سبتزر (Spitzer) الذي يوصف بأنه أبو الطب النفسي الحديث، عندما نشر دراسة عن علاج نفسي للشذوذ الجنسي، طرحه في توجهٍ علمي يناقض الطرح (الثقافي الغربي) الذي يستمرئ الشذوذ ويعتبره مرتبطا بعوامل وراثية ويُبرئ الشاذ من الاتهام على اعتبار أنه جزءٌ من برمجته الجينية(2). ثمّ يوضّح قنيبي كيف هاجت عليه الأوساط والهيئات، مما اضطره في النهاية للاعتذار عن بحثه بما يشبه الانكسار (وكما يوثق خبر لنيويورك تايمز في 18/5/2012(3)).
نعم، هناك نماذج غربية صارخة من القمع العلمي لكل من تحدّثه نفسه بالتحرر من الصندوق الذي تصنعه الجهات (الحضارية) المهيمنة على الحركة العلمية العالمية، والتي تفرض الفلسفة والنظرات الثقافية في سياق الأطروحات العلمية.
ونعم، ليس من السهل رفض الأطروحات العلمية التي أُريدَ لها أن تصمد (بناء على خلفيات ثقافية خاصة) ولو كانت من الخزعبلات العلمية… وبدون شك يمكن أن يكون الخروج من الصندوق العلمي مغامرة حقيقة بكل أبعادها، بالمهنة والرتبة الأكاديمية وبفرصة النشر العلمي وبأرزاق التمويل البحثي، وبصورة العالم أو الباحث، وبمستقبله المهني بالجملة. لذلك قلنا أن الموضوع ذو طابع كفاحي (سياسي).
وبالطبع، لا تقف تلك التكاليف على ما ذكرناه أعلاه من مواجهة داخل الأوساط الأكاديمية، بل قد تتعداها لتلقي الهجوم من أفراد الناس الذين استسلموا للروايات العلمية بعدما بلعوا الطعم بأنّ تلك الأطروحات هي أفضل ما تمخض عنه التفكير البشري ولو تصادمت مع أديانهم، وبعدما فتحوا أفواههم وتمايلت رؤوسهم اندهاشا بما تذكره وسائل الإعلام مِن أن العلم أثبت كذا… وأن العلماء حصلوا على دلائل كذا… وخصوصا عندما يُنشر ذلك في تقارير إعلامية ومؤتمرات صحفية… ثم عندما لا يكون الإعلام محايدا، لذلك يمكن أن يواجه العالِمُ أو الباحثُ الرافض أو المشكك بالأطروحات «هجوما» إعلاميا فوق الهجوم الأكاديمي والاجتماعي.
فكيف يمكن للناس بعد ذلك كلّه أن يصغوا لصوت ناقد! وخصوصا إذا بدا كأنه نشاز في ضجة الجوقة العلمية المسيطرة، إذ إن ضجيج الكثرة يعلو على مِزمار الحقيقة.
هكذا تتداخل ردود الأفعال في نهج يذكّر بسلوك بشري لازمَ كلَ دعوةٍ للتغير وكلَ خروجٍ على المألوف، وذلك على مسلك من «قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ»… سلوك التقليد الذي لا يخص أولئك الأقوام الذين رفضوا دعوات الأنبياء وتحجّروا رافضين للرسالات السماوية، بل إن ذلك المنطق والتحجّر قد عَبَر الأزمانَ ولم ينجُ منه عصر التقدم والتكنولوجيا والعلوم، الذي قام على التفكير العلمي وعلى سماته من قابلية الشك العلمي ومن الإقرار بظنية النظريات العلمية! إذ إن الشك العلمي يُقرّ عند كتابة السطور ولكنْ الصدور تخلو منه عند ممارسة التفكير الناقد ومواجهة العلوم الزائفة. إذ يطغى على جل العلماء حينها ذلك السلوك المنبثق عن الإيمان بها، ويردّون كأنهم يتعرضون لهجوم عقائدي؟!
لذلك كلّه حريّ بكل متابع أو قارئ واعٍ أن يستعلي عن سلوك التقليد الأعمى في تلقّي الرواية العلمية بالتسليم، وأن لا ينقاد مع جوقة التحريض الظاهر أو الخفي ضد أي محاولة للتفكير الناقد بالأطروحات العلمية المتراكمة.
وخلاصة القول أن الخروج من الصندوق العلمي ومواجهة الأطروحات العلمية الزائفة مغامرة علمية قلّ من يخوضها من العلماء في هذا الزمان، لأنهم قد لا يتحملون تبعاتها المعنوية والمهنية وربما الاجتماعية والإعلامية.
وهذا المسار المعرفي الذي نخوضه تفاعلا مع الأسئلة الوجودية فيه المغامرة والكفاحية، ولكن متعةَ التفكير الناقد، إن لم نقل وجوبه وحاجة الأمة -بل البشرية جمعاء- لممارسته، أعلى وأغلى من أية تكاليف أخرى، ولا أدّعي -خلال خوضه- أني مُصيب بكل ما أطرح وأنقد من المخرجات العلمية، فالعلوم ظنية، وما نراه من العلوم صوابًا اليوم قد نستنتج أنه خطأ لاحقًا، ولكني أقول إن التفكير الناقد يشحّن الهمّة للصدع بمخالفة عدد من الأطروحات العلمية الوجودية، وخصوصا تلك التي «قد تحتمل» التصادم مع ظاهر النصوص الكونية في القرآن، أو تلك التي تزرع الشكوك أو تأسس للإلحاد، وبكل تأكيد فإن تكاليف تلك المغامرة أخف من وقع مشاعر القلق (إن لم نقل الشك) الذي يتحرك في الصدور عند التسليم بالأطروحات العلمية.
ولهذا المسار بقية ومتابعة…
بقلم/ ماهر الجعبري