الوعي يسبق التاريخ، لأن التاريخ هو الأحداث التي وعاها الإنسان وأدرك أهميتها فسجلها ووثقها، وأزمة أي أمة هي أزمة ثقافة، والثقافة هي الوعي، وما لم يفهم دعي الثقافة التاريخ ويعيه فلن يكون مثقفاً حقيقياً، وأي أمة بلا تاريخ هي أمة بلا وعي، أمة بلا ثقافة! ويقولون: التاريخ ذاكرة الأمة .. والتاريخ وعاء الأمة! فالأمة التي لا تستحضر تاريخها أمة بلا ثقافة وفاقدة لوعيها مهما كثر أدعياء الثقافة والوعي فيها! وللأسف نحن أمة لا نعي التاريخ إلا من خلال وعي عدونا به، ونستحضره بروح وعقل الغرب ومستشرقيه ومفكريه، لذلك علاقتنا به علاقة شك وفقدان ثقة ومطالبة باستئصاله، لذلك ما أكثر ما نعيد إنتاجه في أسوأ أشكاله!
مثلاً شهر تشرين الثاني من كل عام يذكرنا بأشد نكباتنا في تاريخنا الحديث والمعاصر ومع ذلك نكرر نفس الأخطاء!
في الثاني منه وعد بلفور عام 1917، الذي أجمع الغرب فيه (مؤتمر لندن 1905 وتقرير كامبل بنرمان 1907) على منح اليهود وطناً قومياً لهم في فلسطين يكون (دولة يهودية)، واعتبر العرب الذين يشكلون آنذاك أكثر من 90% من سكانه أقليات، والغتصبين الصهيونية الأكثرية، وركز على حقوقهم وأهمل حقوقنا. إلى درجة أن بلغ بالوغد بلفور أثناء بحث "المادة 22" من صك الانتداب الذي ابتدعته عصبة الأمم والتي نصت على "أن تؤخذ رغبات السكان من ذوي التبعية العثمانية سابقاً بعين الاعتبار"! أن كتب في المذكرة التي وضعها عام 1919: "أن التناقض بين الصك وسياسة الحلفاء هو تناقض فاضح... فنحن في فلسطين لا نعتزم حتى مجرد مراعاة شكليات التحقق من رغبات السكان الحاليين ... فالدول الأربع الكبرى ملتزمة بالصهيونية، وسواء أكانت الصهيونية على صواب أم على خطأ، صالحة أم باطلة، فإنها ذات جذور عميقة في تقاليد هذا العصر واحتياجاته والآمال المعلقة على مستقبله، على نحو أعمق بكثير من أهمية رغبات سبعمائة ألف عربي يقطنون الآن تلك الأراضي القديمة، أو أهمية ما يلحق بهم من إجحاف وفي رأيي أن هذا هو الموقف الصحيح"! وعلى الرغم من ذلك بقيت بريطانيا صديقة يعول عليها زعمائنا وقادة ثوراتنا الأمل في إنصافنا، كما يعلق اليوم كبار مجاهدينا الأمل على الصديقة أمريكا!
وقبل نهايته بيوم كان قرار التقسيم (181) عام 1947، الذي منح فيه العالم هذه المرة وليس الغرب فقط (أغلبية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة) العصابات الصهيونية فلسطيننا لتكون وطناً لها، في وقت لم يكن أيٍ من تلك الدول يملك شبراً أو ذرة تراب من فلسطيننا! وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة كرست وشرعنت وجود تلك العصابات دولة الأمر الواقع واعترفت بها ومازالت تتآمر على حقنا؛ مازلنا نعتبرها شرعية دولية ونعلق عليها الآمال في إنصافنا وإعادة بعض حقوقنا الوطنية! فأي ثقافة وأي وعي هذا؟!
وما بين الوعد المشئوم وقرار التقسيم ذكريات مؤلمة كثيرة كلها تكرس وتشرعن دولة الاغتصاب لفلسطيننا وتصادر حقنا بإرادتنا!
قرار مجلس الأمن رقم (242/ تشرين الثاني 1967) الذي حرمنا الحق في تقرير المصير والحق بدولة في وطننا مثل أي شعب، وجعل منا مجرد لاجئين نحتاج إلى بعض المساعدات الإنسانية، اعترفت به الأنظمة العربية واعترفنا به فلسطينياً، وجعلنا منه ومن قرار مجلس الأمن رقم (338/تشرين الثاني 1973) الذي أكد على ضرورة تنفيذ ما جاء في القرار (242) الأساس القانوني للدولة الفلسطينية (وثيقة الاستقلال وإعلان الدولة الفلسطينية في المنفى) في دورة المجلس الوطني التاسعة عشرة التي عُقدت في الجزائر في تشرين الثاني 1988، تلك الدولة التي تأتي ذكرى إعلانها وقد مزقت شطريها أيدينا في الصراعات على الكراسي والمناصب! كما أنهما اعتبراهما أساساً لأي تسوية في كل الاتفاقيات التي وقعتها الأنظمة العربية ومنظمة التحرير! ومازلنا نتحدث عن حقنا في فلسطين ونطالب بدولة في حدودها الدنيا في الضفة وغزة؟!
في تشرين الثاني 1973 عقدت القمة العربية السادسة في الجزائر بعد الانتصار العظيم في حرب رمضان/ أكتوبر، وقررت الأنظمة العربية فيها بموافقة منظمة التحرير على فك الارتباط العربي بقضيتها المركزية فلسطين، واعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني! وفي القمة العربية الثانية عشرة في (فاس) في تشرين الثاني 1982، انكشف حجم الوهن والتآمر العربي عندما رفض المجتمعون اعتماد "مشروع الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة" الذي "استند إلى القرار رقم 181/1947 بشأن تقسيم فلسطين، واعتبره "يمثل النص القانوني الدولي الوحيد الذي يعترف بالدولة الفلسطينية كدولة ذات سيادة كاملة وبمحتوى ترابي محدد. واعتمدوا مضمون قرار (242)؟! ومازلنا نعول أمل على الأنظمة العربية وعلى منظمة التحرير في التحرير وإقامة دولة فلسطينية!!!
في القمة العربية الحادية عشرة في عمان في تشرين الثاني 1980 قرر فيها زعماء الأمة قطع جميع العلاقات مع أية دولة تعترف بالقدس عاصمة لـ(إسرائيل) أو تنقل سفارتها إليها. وفي تشرين الثاني عام 2008 يعترفون ويُطبعون بالإجماع وبشكل غير مباشر مع العدو في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، فيما يزعمونه (حوار أديان)! وسبق أن فعلوا مثل ذلك في تشرين الثاني 2007 في مؤتمر أنابوليس، وها هم في تشرين الثاني 2018 يشاركوا ليس فقط في تكريس القدس عاصمة موحدة وأبدية للكيان الصهيوني فقط، بل والاستعداد والتهيأة لتمرير صفقة القرن لتصفية قضية الأمة المركزية عندما يطرحها الرئيس الأمريكي في شكلها النهائي!
وبعد كل ذلك وغيره كثير نسمع أصواتاً تستنكر على كل رئيس أمريكي يخطو خطوة أبعد من سلفه نحو تصفية القضية، وآخرهم الرئيس دونالد ترامب، وذلك سببه إما الجهل بالتاريخ أو عدم استحضاره أو قراءته بعقلية غربية تعمق أزمة الثقافة لدى الأمة وتزيد من حالة فقدان الوعي فتعيد إنتاج التجارب الفاشلة لتسوقنا إلى مزيد من الفشل ونقول: السبب تاريخنا الذي فيه ... وفيه ... وفيه ...!
إليكم حقيقة الموقف الأمريكي (إسرائيل أمريكا من إسرائيل اليهودية)!
كثير من أبناء الأمة يجهلون حقيقة الموقف الغربي وعلى رأسه الصديقة أمريكا، أو يتغافلون أو تواطئون أو ... لقد كان ولازال للولايات المتحدة الدور الأكبر منذ بداية القرن الماضي في كل نكباتنا، بدءً من ابتداعها لمصطلح (الشرق الأوسط)، مروراً بمحاولاتها تحقيق مشروع (الشرق الأوسط) منذ أربعينات القرن الماضي واقعا على الأرض، انتهاء بالجدل القائم الآن حول مشروع (الشرق الأوسط)، الذي عاد ليطرح بقوة في هذه المرحلة بعد أن ظنت الولايات المتحدة أن الأمة فقدت القدرة على المقاومة ...
لإدراك حقيقة الموقف الأمريكي علينا أن نعي ظروف النشأة اليهودية القبالية للكيان الأمريكي على أيدي المغتصبون الأوروبيون المهوسين دينياً بالخرافات التوراتية اليهودية عن (شعب الله المختار) و(أرض الميعاد) و(نهاية العالم) و(السيادة اليهودية العالمية)... وغيرها، من أتباع المذهب التطهيري (البيوريتاني) البروتستنتي، ومذهب (عصمة الكتاب المقدس الحرفية)، الذي وصفه مؤرخ واعٍ مدرك لمدى يهودية تلك المذاهب:
"كانت البيوريتانية نوعاً من يهودية جديدة، يهودية محولة إلى مصطلحات أنجلو - سكسونية. ركز هؤلاء البروتستنت، في رجوعهم إلى نص الكتاب المقدس، على العهد القديم، وحاول بعضهم تقبلها حرفياً كأي يهودي أرتوذكسي". هذه البروتستنتية قد بلغت "ذروتها في القرن العشرين في مذهب العصمة الحرفي الأمريكي الذي يصر على أن (إسرائيل) هي التحقيق الواقعي للنبوءة في العصر الحديث". فقد رسخ ذلك المذهب في أذهان البروتستانت الأمريكيين "أن هناك علاقة قومية بين أرض فلسطين والشعب اليهودي باعتبارها السلالة المباشرة لقبائل إسرائيل العبرانية القديمة. وكان الفقه البروتستانتي (المسيحي) هو الذي رسخ التواصل المستمر بين الأرض والشعب".
على أيدي أولئك النفر الذين هربوا إلى العالم الجديد نتيجة الاضطهاد الديني الذي لاقوه في أوروبا بما كانوا يحملونه من خرافات توراتية ودينية عن نهاية العالم، وأحلام إقامة (إسرائيل البرويستنتية، أمريكا، توطئة لإقامة إسرائيل اليهودية في فلسطين)، نشأة الكيان الصهيوني الأمريكي على أشلاء الهنود الحمر بعد أن أبادوهم، ودمروا حضارتهم. وقد كانوا يرون في الهنود الحمر سكان الأرض الأصليين وهم يطاردونهم أنهم الكنعانيين الذين أمر الرب في التوراة بني إسرائيل بتطهير الأرض - فلسطين - منهم. كما كانوا يرون في أرض الهنود الحمر أنها فلسطينهم الجديدة، وفي بعض مدنهم التي أسسوها في أرض الهنود الحمر أنها قدسهم، وقدس أقداسهم. وليس أدل على ذلك من الخارطة، التي رسمها أولئك المهووسون بخرافات التوراة للوطن اليهودي المزعوم أنه (وعد الرب) لليهود، التي يعود تاريخها إلى عام 1687م، والتي ضمت إلى جانب فلسطين "مصر، الحجاز، بلاد الشام، العراق، وأجزاء من تركيا تقريباً". هذه الأجزاء التي تمثل قلب مشروع بوش (الشرق الأوسط الكبير والموسع). تلك الخارطة التي قدمها بوش هدية لشارون أثناء أحد زيارته لواشنطن!
يجب علينا فهم الظروف والبيئة التاريخية والدينية لنشأة الكيان البروتستانتي الأمريكي لنعِ البعد التوراتي في السياسة الأمريكية وعمق العداء الأمريكي لأمتنا ووطننا، "فالولايات المتحدة تعتبر أوضح مثل لتقاليد الصهيونية (غير اليهودية)، فقد تغلغلت الأفكار العريضة للصهيونية في التفكير الأمريكي والسياسة الأمريكية تجاه (الشرق الأوسط) وفلسطين منذ قيام الجمهورية ولا يزال هذا الاتجاه سائداً حتى يومنا هذا. وتشير السياسات العامة حول المشكلة الفلسطينية إلى اعتراف الولايات المتحدة (بحقوق) اليهود في فلسطين". وقد عبر عن تلك الحقيقة كولن باول يوم 24/9/2004م: "إن أمريكا دولة يهودية – (مسيحية)".
بقلم/ مصطفى إنشاصي