الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش الأب، كان واحداً من الرؤساء الأميركيين المثيرين للجدل منذ عقود، وربما أن الرئيس الحالي دونالد ترامب هو الأكثر جدلاً على الإطلاق. ومع هذا فثمة شبه كبير بينهما وفروق كبيرة أيضاً. فالرئيس بوش الذي رحل قبل أيام دشن مرحلة ما بعد الحرب الباردة وجسد الروح الأميركية المنتصرة في اشتباكها مع العالم، أما الرئيس ترامب فبدوره دشن عهد أميركا المتفردة التي لا تأبه كثيراً بحلفائها ولا تخشى المجازفة في أي شيء. صحيح أن السياسة الخارجية الأميركية تأسست واتسمت بالكثير من الرعونة طوال فترات عملها، خاصة منذ اعتماد مبدأ مورنو عشية دخول الولايات المتحدة الحرب لصالح حلفائها في الحرب العالمية الأولى، لكن مع هذا فإن الرعونة التي يمارسها ترامب ربما كانت غير مسبوقة في التاريخ الأميركي الحديث.
وبالعودة إلى بوش الأب الذي جاء للسياسة من عالم الـ»سي آي إيه»، فإنه أيضاً تصرف ببعض الرعونة، خاصة في اشتباك الجيش الأميركي خارج الحدود وحرب الخليج الأولى. وستظل حرب الخليج الأولى وتحريك الجيوش الأميركية العلامة الأبرز في أي استعراض لتاريخ مرحلته. ففور غزو العراق للكويت في آب 1990 أخذ بوش على عاتقه مهمة قيادة العالم في حرب ضد العراق لاستعادة الكويت. ونجح في استصدار قرارات أممية تخوله فعل ذلك حيث تحرك جيوش ثلاثين دولة بما فيها دول عربية لتحرير الكويت ومنيت العراق بهزيمة نكراء. وأكثر من ذلك تم إصدار قرارات لمعاقبة العراق سياسياً واقتصادياً من خلال وصع مناطق حظر جوي لا يسمح فيها للعراق باستخدام الطيران ووضع قيود على إنتاج وتصدير النفط. العقوبات الاقتصادية التي ساهمت في إضعاف الجيش العراقي الذي كان لتوه قد أنهى حرباً ضروساً ضد إيران أنهكت قواه رغم أنه خرج منها شبه منتصر، والنتيجة كانت أن هذا الجيش الذي ربما كان من آخر الجيوش العربية القوية بات فريسة سهلاً للجيش الأميركي وحلفائه من الجيوش الغربية بعدة دول، خاصة بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وبولندا، وغيرها وتم تدميره وتم تمزيق العراق. بكلمة أخرى فإن بوش الأب هو المسؤول عن أزمة العراق الحالية.
من الصعب فصل ما قام به بوش الأب في العراق والحزم الذي أبداه في إضعاف العراق دون ربط ذلك بتوجهات الإدارة الأميركية بعد تفكك جدار برلين. فواشنطن باتت القوة الأولى في العالم وهي ليست القوى العظمي بل بات يطلق عليها القوة «القصوى»، القوة التي لا تقاوم، خاصة مع انشغال موسكو بأزماتها بعد تفكك جمهورياتها والقتال المرير سياسياً وميدانياً التي خاضته بعضها من أجل الاستقلال والانسلاخ عن الاتحاد. يمكن وفق التحليل الافتراضي في مناهج البحث في العلوم السياسية تخيل ماذا سيكون شكل المنطقة لو تمكن العراق من الاحتفاظ بالكويت، وما هي الخطوة التالية التي كان سيقوم بها صدام بعد ذلك، وهي قد تشمل غزو السعودية وبقية الإمارات والممالك والمشايخ في المنطقة. وبغض النظر عن موقفنا من هذا أو أين نقف، فإن المؤكد أن هذا كان سيعني تغيراً كبيراً في شبكة العلاقات لدولية لصالح صعود قوة إقليمية كبرى اسمها العراق من شانها أن تتحول مع المصادر المالية الجديدة من الدول التي ستضمها بالقوة إلى دولة عظمي. وفي الوقت التي كان على العالم أن ينشغل بنفسه وبأزماته فإن واشنطن في ذلك العهد كان يجب أن تتأكد أنه لن توجد قوة أخرى في العالم يمكن أن تبسط جناحيها على الكوكب غير العلم الأميركي. كانت إدارة بوش الأب تملك رؤية ثابتة تجاه ذلك بدأت من توجهاتها في موضوع توسيع الناتو وتغيير عقيدته بعد ذلك إلى الدفع باتجاه ضم دول وسط وشرق أوروبا إلى الاتحاد الأوروبي، إلى الانشغال الشكلي بقضية الشرق الأوسط من أجل ترميم صورة واشنطن بعد ضرب العراق.
في المقابل، فإن إدارة ترامب أوصلت تلك اللحظة إلى ذروتها، لحظة التفرد الأميركي، خاصة مع طرحها صفقة القرن غير عابئة بمواقف الحلفاء العرب، ومن خلال الاشتباك مع الحلفاء الأوروبيين حول قضايا التجارة الدولية وكذلك اليابان والصين. تفرد يعكس ثقة واشنطن بقدراتها العسكرية وقوة ردعها. رغم ذلك فإن في تصرفات ترامب استهتار بالحلفاء والعالم والمؤسسات الدولية.
فالواقعية السياسة التي ميزت منطق بوش الأب هي ذاتها التي تميز تصرفات ترامب، مع الفارق الكبير بأن بوش الأب كان أكثر حساسية للمجتمع الدولي وللمنظمات الدولية بعكس ترامب الذي يبدي استهتاراً كبيراً في المنظمات الدولية وفي مرات يتساءل حول جدوى وجودها وأهميتها. بوش جاء من عالم الحرب الباردة وكان مسؤولاً كبيراً في الإدارة في ذروة تلك الحرب خلال مرحلة دونالد ريغان حيث كان نائباً للرئيس وقبلها سفيراً في الصين ومديراً للـ»سي آي إيه»، وأبدى اهتماماً في التعامل مع تفكك عالم الحرب البادرة على قاعدة الحافظ على مصالح واشنطن بأكبر قدر ممكن، لذلك لجأ إلى الأمم المتحدة من أجل تأمين أكبر جبهة عريضة لمحاربة العراق على قاعدة تحالف الراغبين، ودعا إلى عقد مؤتمر مدريد للسلام رغم عدم جديته في التعاطي مع العنت الإسرائيلي بعد المؤتمر رغم أنه أبدى حزماً للضغط على شامير للحضور من خلال التلويح بوقف المساعدات.
ترامب لا يختلف كثيراً إلا في أنه يحقق الرؤية الأميركية بأن أميركا ليست بحاجة إلى أحد في العالم، في إعادة تنفيذ لعقيدة شبيهة بمبدأ مورنو حول العزلة الأميركية، لكنها العزلة الإيجابية من وجهة نظر القائمين عليها لأنها تعني أن العالم يحتاجنا ونحن لا نحتاجه، أو بالأحرى «الحلفاء يحتاجوننا ونحن لا نحتاجهم». هل ثمة فروق بين عالم بوش الأب وعالم ترامب؟ سؤال بحاجة للمزيد من النقاش لكن المؤكد أن الرئيسين الديمقراطيين في تلك الحقبة وهما كلينتون وأوباما لم يحدثا أي فرق.
بقلم/ عاطف أبو سيف