كانت هدى الخامسة من بين أخوتها الثمانية، درست في مدرسة القرية واشتغلت في الحقل لتساعد والدها في تحمّل العبء المعيشيّ، فأخوتها الثلاثة الكبار يتعلّمون خارج البلاد والمصاريف كثيرة. وعلى الرغم من أنّها كانت تشتغل ساعات ما بعد الظهر، نهاية الأسبوع والعطل المدرسيّة، إلّا أنّها تفوّقت في دروسها. كانت هدى من أجمل بنات البلد، فتقدّم لخطبتها ابن عمّها والكثيرون من زينة الشباب لكنّها رفضت فكرة الارتباط لرغبتها في التعلّم أسوة بإخوتها الذكور. حاولت والدتها إقناعها بالزواج المبكّر كباقي البنات دون جدوى.
قُبلت للدراسة الجامعيّة في جامعة حيفا البعيدة، سكنت في مساكن الطلبة وعملت ليلتين في الأسبوع بمقهى في شارع "أبي نوّاس" العريق وتعرّفت على سعد. كان يكبرها بخمس سنوات، من قرية في شمال البلاد، يدرس في الجامعة ذاتها وناشط فعّال في الحركة الطلّابيّة، محليًّا وقطريًّا، بحوزته سيّارة ويقطن شقّة في حارة مختلطة، توطّدت العلاقة بينهما وخطّطا لمشروع زواج.
وصل أسماع أهلها خبر العلاقة بينها وبين سعد ولكنّها طمأنتهم بأنّ العلاقة جديّة وليست عابرة، وأنّه من عائلة وطنيّة معروفة في الشمال، والزواج سيكون بعد تخرّجها من الجامعة. رُغم ذلك حاولت أمّها ردعها وإبعادها عن تلك العلاقة؛ فهي تفضّل أحد الأقارب أو شابًّا من البلدة أو القرى المجاورة، يعرفون "ممشاه"، حسبه ونسبه، وطُلّابها كُثر لجمالها وشهادتها الجامعيّة المرتقبة، لكنّها أصرّت على قرارها ولم ترضخ لمحاولات الإقناع المتكرّرة.
بعد تخرّجها بأشهر، واستلامها وظيفة مرموقة، تقدّم سعد لخطبتها واتّفق مع والدها للحضور مع "الجاهة" يوم الجمعة "لقطع الحكي". تجمّع أهلها وأقرباؤها لاستقبال سعد وأهله، رحّبوا بهم واستقبلوهم أحسن استقبال وقاموا بواجب الضيافة على أتمّ وجه. بعد تناول أطراف الحديث، ممّا لذّ وطاب، دخلت هدى تحمل صينيّة المشروب، كالعادة، وحال دخولها صالون الضيافة نظرت خلسة، مزهوّة، نحو عريسها سعد وفجأةً أطلّ عليها مسدّس على خصره، تحت زنّاره، فارتبكت، ارتعشت يداها ووقعت صينيّة المشروب بكاساتها على السجّادة، فرّت هاربة نحو المطبخ وأخذت تنتحب، لحقتها والدتها لتستفسر عمّا جرى فوجدتها مستلقية على المصطبة تبكي، حاولت تهدئتها، فاشتدّ عويلها وتمتمت قائلة: "صدقت يا ماما، حقًّا؛ خُذ من طينة بلادك وحُط على خدادك ".
بقلم/ حسن عبادي