الذاكرة الفلسطينية ملأى بالمناسبات، والتاريخ الفلسطيني في قرنه الأخير الذي امتاز بالهجمة الأشرس على وطنه منذ وعد بلفور مليءٌ بالانتفاضات، أولها التي بدأت عام 1919 في يافا بين الفلسطينيين واليهود، وآخرها مطلع هذا القرن فيما عُرفت بالانتفاضة الثانية، وما بينهما من انتفاضات وهبّات كانت عبارة عن ردات فعل لهجوم لم يتوقف حتى اللحظة.
ولكن انتفاضة الحجارة كانت مختلفةً وشكّلت نقطة تحول في حياة الشعب الفلسطيني، ووضعته على الخارطة السياسية لينتقل مشروعه إلى مسار جديد من العمل، وإن لم يحقق هذا المشروع أهدافه حتى اللحظة. فقد بدأت تلك الانتفاضة من مخيم جباليا بقطاع غزة عندما قام سائق شاحنة إسرائيلي بصدم سيارة عمال كانوا عائدين من العمل في إسرائيل.
في اليوم الثاني قام المواطنون بتشييع جثامين الشهداء العمال، ولأن مركز الجيش الإسرائيلي كان قريباً من المقبرة، فقد نزل المشيعون بعد الانتهاء من مراسيم الدفن وبدؤوا بإلقاء الحجارة تعبيراً عن سخطهم، ففتح الجنود النار بكثافة ليصاب عدد كبير من المواطنين ويسقط أول شهيد في الانتفاضة، وهو حاتم السيسي، وهكذا مع تشييع اليوم الثاني تستمر الأحداث لتتدحرج إلى باقي قرى ومخيمات ومدن فلسطين، ولم يكن أحد يعلم أن هذه الأحداث ستستمر لسنوات وستأخذ الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي نحو اتجاهات جديدة.
لم يختلف الفلسطينيون كثيراً على الأحداث، وبسرعة التقطت الفصائل الوطنية اللحظة وشكلت غرفة عمليات مشتركة عُرفت بـ "القيادة الوطنية الموحدة" كآلية تنسيق بينها وقيادة لحركة الجماهير التي تندفع يومياً للشوارع للاشتباك مع جنود الجيش وعرباتهم، وسلاحُها الوحيد كان الحجارة، وقد أطلقت القيادة الوطنية الموحدة منذ بيانها الأول شعاراً للانتفاضة هو "نحو كنس الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة".
الانتفاضة وضعت الشعب الفلسطيني في موضع متقدم، إذ احتلت أولى نشرات الأخبار في كل التلفزيونات العالمية، وأضحت حدثاً فرض نفسه على العالم، وأعادت تظهير القضية الفلسطينية من جديد، خاصةً بعد معارك 82 والتي انتهت بتشتيت القوات الفلسطينية في أكثر من دولة، وخروجها من لبنان ومرور سنوات من السكون للقضية الفلسطينية، جاءت الانتفاضة لتعيد الشعب من جديد، وتضع القيادة الفلسطينية في تونس في الواجهة، وتفتح لها أروقة السياسة الدولية لتتسلم زمام المبادرة، متكئةً على شعب قدم لها خشبة خلاص من محاولات شطب بعد الخروج من بيروت.
منذ الأسابيع الأولى تمت مأسسة الانتفاضة من أعلى القيادة وصولاً للجان في المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية وبكافة الاختصاصات، من لجان ثورية إلى لجان اجتماعية وطنية وإغاثية، وتم الطلب من أفراد الشرطة من الفلسطينيين العاملين في سلك الشرطة الإسرائيلية الاستقالة، وقد لقيت قيادة الانتفاضة التزاماً كاملاً من كافة الأفراد والمؤسسات، وتم تهيئة الاقتصاد الفلسطيني الفقير بما يتناسب مع مستجدات اللحظة التاريخية، وتم التعبير عن رفض الاحتلال من خلال إضرابات بأيام محددة تعلنها القيادةُ الوطنية الموحدة في بياناتها التي كانت تصدر تباعاً، يتلقّفها المواطنون كبرنامج عمل ملزِم للجميع، باعتبار أن كل ما يحدث هو خطوة على طريق كنس الاحتلال.
كانت الإجراءات الإسرائيلية تزداد شراسة، فقد أمعنت في البطش حد الجنون ونشرت أهم وحداتها القتالية النظامية المجهزة للحروب الكلاسيكية، مثل ألوية جولاني وغفعاتي وحتى لواء المظليين، بل وقامت بتشكيل لواء جديد هو لواء "كفير" من أقوى وحداتها لحرب الشوارع الذي انتشر في الضفة الغربية، لكن كل إجراءاتها لم تكن لتثني شعباً شعر أنه لأول مرة يُمسك زمام أموره بيده، وقرر أن يتحرر من الاحتلال صاعداً نحو كنسه وإقامة دولته المستقلة.
بعد واحد وثلاثين عاماً من الشعار والتضحيات والفعل المتواصل، لم نكنس الاحتلال بكل ما فعلنا، ولم نصل للحظة التي استولدت ذلك الحلم الجميل، وما زال الاحتلال جاثماً على صدورنا يتحكم بكل شيء فينا، بل زادت سرقة الأرض وزاد الضغط على الفلسطينيين وتباعدت الدولة أكثر، ولم يعد الحديث عن حل الدولتين قائماً، وكل ما فعلناه أننا شكلنا نظام حكم تحت الاحتلال، وأخذنا منه العمل الأسود، وتحول الاحتلال إلى احتلال ناعم تحرَّرَ هو من مسؤوليته عن الشعب الفلسطيني والتزامه.
وما بين الحلم والواقع هوةٌ كبيرة، بل تعقدت أكثر بين الفلسطينيين، حيث الصراع الدامي على هذه السلطة تحت الاحتلال ومن يحكم هذا الشعب البائس والفقير ليصبح تحت سلطته، فلا الاحتلال بقي ليوفر فرص العمل، ولا السلطة في غزة والضفة قادرتان على توفيرها بحكم تحكم الإسرائيلي بالاقتصاد، وبقينا معلقين دون القدرة على التقدم للأمام واستحالة العودة للوراء، لنجد أنفسنا بعد واحدٍ وثلاثين عاماً من الحلم والشعار أسرى كابوس لا نعرف كيفية الخروج منه.
إسرائيل التي تجيد استغلالَ كل شيء، تمكنت من حرمان الفلسطينيين من تحقيق إنجاز من الانتفاضة، لتستغل أعظم حركة شعب لتسريع مشروعها بالتخلص من الكتلة السكانية الفلسطينية، وتحديداً في غزة، ارتباطاً بمشروع الثمانينات الديموغرافي الذي شكل أساس السياسة في إسرائيل، ولتستغل ظروف إقليمية انكسر فيها الموقف العربي بسبب حرب الخليج واختناق منظمة التحرير الفلسطينية، لتدخل في مفاوضات معها تمهيداً لعملية الانفصال أو التخلص من غزة، وهنا تم توقيع اتفاق أوسلو والذي كان عنوانه الأبرز "غزة" وتلحق بها أريحا".
وما بين الشعار والواقع جرت أحداثٌ كثيرة يمكن تسجيلها على سلم بياني هابط، لم تكن في صالح الفلسطينيين بل أخذتهم باتجاهات معاكسة لهبوب رياحهم. لماذا؟ وكيف؟ تساؤلات كثيرة أصبحت بحاجة إلى اجابة لم يجر التوقف عندها.
والأهم فيما حدث مع بداية الانتفاضة، ان إسرائيل أحالت قراءة الظاهرة إلى مراكز دراسات متخصصة، وخرجت تلك المراكز بتحليل الظاهرة من خلال نظرية هرم الغرائز والحاجات، لتقول إن سبب الانتفاضة هو الوضع الاقتصادي المرفّه والدخل المرتفع الذي وفّرته إسرائيل للفلسطينيين، جعلتهم يجتازون المراحل الأولى في الهرم ووصلوا إلى مرحلة متقدمة، وهي تحقيق الذات على شكل تطلعات وطنية. وبعدها اتخذت إسرائيل القرار بإعادة إفقار المجتمع وإعادة الفلسطينيين وإشغالهم في الطوابق الأولى من الهرم، وها نحن عدنا فعلاً بعد تجربتنا الطويلة نتحدث عن أزمة الزواج والغرائز والفقر والأكل والمسكن والأموال والوظائف.. كل شيء بحاجة إلى دراسة، فهل يحدث ذلك عندنا؟.
بقلم/ أكرم عطا الله