وأيضاً يصلح "اليسار والدور المطلوب" أن يكون عنواناً رديفاً للمقالة. لأن ثمة دوراً كبيراً غائباً كان يمكن لليسار أن يقوم به لكنه لا يفعل. المشكلة أن اليسار الفلسطيني لا يتراجع فحسب، بل إن ثمة امتزاجاً غير مبرر في أجندته مع قوى يمينية لا يمكن فهمه إلا في إطار فقدان البوصلة. واليسار الفلسطيني الذي أثرى الثورة والكفاح الوطني ببطولات يعتز بها كل فلسطيني، وقدّم زعماء وطنيين انظموا إلى مصاف الآباء في الحركة الوطنية، لم يعد قادراً على القيام بأقل أدوراه المتوقعة، للدرجة التي يصعب معها الحديث عن وجود أي دور له. هذا مؤلم ولا يسر أحداً لكن الواقع يقول ذلك.
قام اليسار الفلسطيني بمكوناته المختلفة على مدار التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر بأدوار مهمة على صعيد الكفاح الوطني؛ سعياً لتحقيق التطلعات الوطنية، إلى جانب إثارته للقضايا الاجتماعية التي كانت في صلب الوعي والنقاش العامين. صحيح أنه في بعض اللحظات كانت تطغى على الخطاب اليساري في فلسطين قضايا التحرر الديمقراطي والاجتماعي والتي لم تكن بالنسبة للكثيرين ملحة، خاصة بين التيار العام في الحركة الوطنية، لكنها مع ذلك كانت جزءاً مهماً من البحث عن الأفضل فلسطينياً. والأهم أنها في ذلك الوقت كانت جزءاً من نقاش عربي عام في مرحلة ما بعد تفكيك الاستعمار في البلدان العربية وصعود نخبة التحرر، التي تحولت مع الوقت إلى طغمة متسلطة، وهذا موضوع آخر. ما أقوله هنا: إنه في ذلك الزمن من بدايات سني النصف الثاني من القرن العشرين كانت أطروحات اليسار الفلسطيني تشكل توسعاً وامتداداً للنقاش والطرح اليساري العربي العام، كما أنه جزء من حالة كونية كان اليسار فيها فاعلاً بسبب ما مثله الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية من ثقل في السياسة الكونية. في الشق الآخر من أوروبا كان ثمة يسار فاعل ولكن أكثر تحرراً من عقدة الماركسية بطبعتها اللينينية يبحث في قضايا أعمق في مجتمع صناعي حقيقي، وكان اليسار الإيطالي الأبرز في هذا النموذج. خلاصة القول: إن الواقع كان أكثر دفعاً تجاه الفعل الذي كانت تقوم به قوى اليسار.
جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وتبدلت مناخات وإنهارات دول وتراجعت أحزاب، وتفككت نظم سياسية وأحلاف، وظهرت قوى جديدة وأحلاف جديدة، وتغيرت خارطة الأصدقاء والأعداء. كان كل ذلك على الصعيد العام، ولم يكن الصعيدان العربي والفلسطيني استثناءً في ذلك. فلسطينياً - وهذا ما يفيدنا هنا - ظهرت قوى الإسلام السياسي، خاصة الطبعة الإخوانية منها، ونجحت في الصعود جماهيرياً، مستندة إلى الخدمات الخيرية التي كانت تقدم عبر المساجد وقوة الخطاب الديني في مجتمع يبحث عن أفكار تعيد له اتزانه بعد الكثير من التغيرات التي جرت فيه. وهذه التغيرات هي امتداد لصعود الإسلام السياسي في المنطقة بشكل عام حتى في إيران وتركيا.
يمكن القول: إن اليسار الفلسطيني في الألفية الجديدة انهار وتراجعت مكانة قواه وتنظيماته الكبرى في النظام السياسي الفلسطيني، ولم تعد تلك القوى تمثل ثقلاً في الشارع، وكانت نتيجة انتخابات العام 2006 واضحة، وإذا تم سحبها على مجمل السياق الفلسطيني (وأنا لست من دعاة ذلك لأسباب كثيرة)، فإنه لن يكون بمقدور قوى كثيرة حتى الطليعية منها أن تحافظ على وجودها وتمثيلها في الهيئات العليا للنظام السياسي. هذا شيء محزن؛ لأن هذا يعني تراجع ضمانة من ضمانات الحفاظ على التوازن في النظام السياسي والحفاظ على القيم التي يريد غلاة اليمين جر الساحة الفلسطينية لها. لكن ألا يستدعي هذا وقفة جادة؟
مرة أخرى، من المؤكد أن ثمة ظروفاً قاهرة، جزء منها يتعلق بالسياق العام والأمزجة وتبدل تطلعات المواطنين وأفكارهم، وحتى هذا يجب أن يبدو خطيراً؛ لأنه يعني العجز عن تكييف الأفكار حتى تلائم التحولات في المجتمع. لقد فعل ذلك بجدارة يسار أوروبا، حتى مفهوم الطبقة العاملة تم تغيره منذ ظهور المهن الفنية الجديدة، وبالتالي كل منظومة الصراع الطبقي تحولت. في الحالة الفلسطينية حدث شيء عكسي... لقد باتت قوى اليسار، أو كما يظهر من بعض المواقف، أكثر يمينية من اليمين المتشدد وغابت الأجندة الاجتماعية والنقاش حول تثوير المجتمع ديمقراطياً، بل إن سلفية يسارية جديدة طغت بطريقة أو بأخرى.
حتى في الحركة الوطنية هناك تناقضات أساسية وتناقضات ثانوية. هذا الفهم فقده اليسار. ففي ظل اختلافه عن القوى الحية في الحركة الوطنية تحالف بشكل مثير مع قوى اليمين الإسلامي. وظهر التحالف في هيمنة قوى اليمين الإسلامي في غزة على الحالة في القطاع معتمدة على هذا التحالف، حتى باتت الشعارات التي ترفع وتسير خلفها قوى اليسار هي ذاتها شعارات الإسلام السياسي. ليس هذا فحسب بل إن الأجندة الاجتماعية غابت بشكل كامل، وربما تم إغماض العين عنها حتى لا يتم إفساد الألفة السياسية الطاغية بين اليسار واليمين الإسلامي وحتى لا يتم تعكير مزاج الأخير. تمت المغالاة في حالة العداء للقوى الحية في الحركة الوطنية وتم تضخيم الصراع ولم يكن هذا تناقضاً أساسياً داخلياً، بل انتقل إلى كونه مركزاً لصراع. الدخول في التفصيل يعمق الأزمة ويكشف الكثير من بواطنها، لكن لا بد من الإشارة إلى أن ردة الفعل هذه تعكس حالة عجز لا يمكن أن تساعد قوى اليسار في النهوض مرة أخرى ما لم تقدم نفسها ليس ضداً بل نقيضاً طبيعياً على مستوى الفكر والممارسة والمواقف. تخيل السياق الفلسطيني في كل تفاصيله تظن أن قوى اليسار متماهية مع غلاة اليمين. والمطلوب أن يكون لدينا يسار حقيقي قادر على أن يظل ضمير الثورة وحامي المواقف الحيوية للمصالح الوطنية، لا أن يكون "ميكروفون" للإسلام السياسي. تحديداً اليسار يجب أن يتمايز دون غيره عن كل ما هو سواه.
بقلم/ عاطف أبو سيف