كل مخزون الذاكرة من الظُلم الذي وقع على اللاجئين الفلسطينيين خارج وطنهم بعد نكبتهم الكبرى الأولى، استحضره لاجئو فلسطين في سوريا في تغريبتهم الثانية والقاسية، تغريبة هزّت بقوة هويتهم.
وماذا لو شاهد أبناء النكبة الأولى أحفادهم وهم يهيمون في تلك الهجرات الخارجية القسرية الأليمة عبر قوارب الموت بالبحار والمحيطات، والتي أملتها ظروف الأزمة المُستعرةِ في سوريا، هجرة قسرية وتشرّد جديد، وتغريبة ثانية قاسية، عبر قوارب الموت ومنها الى الــ (البلم) الذي لم يكن يفصلهم عن مياه البحار والمحيطات سنتيمترات قليلة, وأحيانا يقفز الماء نحو قلب الــ (البلم). فركبو موجات البحار وتمتمات تتوسل الله النجاة والوصول, وعيون تحدق بالعيون وتكتب بتحجّرها أسئلة يعرفها الجميع تمام المعرفة...؟
هي هجرة لن تنسيهم حقهم في وطنهم الأبدي فلسطين، فالخيمة في داخلهم، تلك التي انتصبت في نكبة العام 1948، ورحلت معهم إلى كل جهات الأرض. أقسمت أن تبقى معهم، تقيهم في كل موسم ريح السموم وفي الوحدة صقيع الغربة. وهم عاهدوها أن تظل فيهم، تظلل أجسادهم، تقي أرواحهم من حر النيران الملتهبة إلى أن يعودوا، وها هو مفتاح البيت معهم مهما ابتعد عنهم البيت. سيظل الجد يحكي للحفيد عن عكا التي لولا صمودها لما جاورت البحر، عن حيفا التي لا تنام إلا على هديره، ويافا التي ظلت عروسه مهما جف وعطش، يافا التي لم تأتِ بالمراكب بل قبل البحر كانت. لن يكف الإبن عن الرحيل من غربة إلى غربة وعن سؤال أبيه يا أبي "لماذا تركت الحصان وحيداً"؟
لقد كان الشعور السمة البارزة لحياة لاجئي القطر الفلسطيني من بلاد الشام في سوريا، في اعتقادٍ بثابتٍ لايتحوّل وهو أن مساراً واحداً يُمكن أن يجعلهم يغادرون سوريا الحالية، وهو مسار العودة الى فلسطين. لكن وفجأة، يتغير كل شيء، المكان العامر بالناس والحركة في مخيم اليرموك وغيره يتحوّل الى مكان مهجور بقدرة الشياطين وعشاق الظلام.
بقلم/ علي بدوان