الديماغوجيا خطاب سياسي مضلل، وهو خطاب داخلي في منتهى السوء؛ لأنه يضلل الشعب ولا يفعل الشيء ذاته تجاه العدو الذي يعتمد في إدارة شؤونه على المؤسسة التي تعرف جيداً وبدقة وبموضوعية ما لديها وما لدى عدوها. لذا فإن ما يتخلل الخطاب السياسي للفصائل الفلسطينية من ديماغوجيا لا تضلل سوى الشعب الفلسطيني، فيما العدو الإسرائيلي يعرف جيداً ما لديها وما هو ليس لديها، وهكذا فإن «الادعاءات» الفارغة بامتلاك مصادر القوة غير المعنوية، أي من السلاح والعتاد والجنود المدربين وما إلى ذلك، ما هو إلا لغو كلام، يضر كثيراً ولا ينفعنا بشيء.
ولعل خير مثال على ديماغوجيا الفصائل حالياً حركة «حماس»، التي يتسابق قادتها، كما لو كانوا في لعبة أطفال مع العدو، بادعاء ما لدى «قسامهم» من قوة وعتاد، ومنذ ثلاثة عقود، وأبواق هذه الحركة المراهقة سياسياً، رغم تجاوزها العقد الثالث من عمرها، لا تكف عن الادعاء بتهديد العدو الإسرائيلي بما يزلزل الأرض من صواريخ وأنفاق وسلاح مدرعات وسلاح جو، ولا يفكر أحد هذه الأبواق قيد أنملة أو للحظة فقط، بأنه إزاء دولة نووية، هي واحدة من تسع دول في العالم فقط، التي تمتلك السلاح النووي، حيث إن إسرائيل لديها ثمانون رأساً حربياً نووياً، كفيلة في حال إطلاقها بتدمير الكرة الأرضية، ورغم ذلك فإن دعاية العدو حين تخاطب العالم الخارجي، تدعي بأنها دولة مسكينة ومهددة وجودياً من محيط معادٍ.
وبعد أن عرفنا الكيفية التي اعتادت بها فصائل العمل الوطني على الاحتفاء بالذكرى السنوية لانطلاقاتها، منذ عقود، خرجت علينا حركة «حماس» بما هو مختلف، وهي التي ليس لها يوم محدد يعتبر إعلاناً لانطلاقتها، سوى ما اعتبر كذلك من إعلان منفرد لمجموعتها العسكرية التي شاركت بالانتفاضة الأولى عام 1987، والمختلف هو أن تحتفي في قطاع غزة، كما تحتفي «الدول» عادة بتسيير ما يسمى العرض العسكري، والذي هدفه الشعب الفلسطيني والسلطة الفلسطينية التي ما زالت تأمل بأن تنهي «حماس» الانقسام بالتراضي، والقول: إنها إنما تحكم بالقوة، والتخويف.
و»حماس» وبعد توالي السنين في حكمها قطاع غزة، وبعد استمرار علاقتها الخاصة والمنفردة وخارج إطار السلطة وم.ت.ف مع بعض دول، يمكن القول الآن: إنها ليست عدوة لإسرائيل، وهي لا تختلف كثيراً عن السلطة في الضفة الغربية، ذلك أن اتفاقيات وتفاهمات التهدئة، ما هي إلا تنسيق أمني بشكل آخر مع إسرائيل، ولو أن هناك تهديداً سياسياً أو أمنياً يخرج من جيب أحد قياداتها التي تظهر ليل نهار علناً في غزة، لقامت إسرائيل دون أي تردد باغتيالها، خاصة أن الحركة هذه الأيام لا تشهد حتى التعاطف الشعبي في المحيط العربي، الذي كانت تتمتع به الحركة من قبل؛ نظراً لأن غزة لا تتمتع بسيادة سياسية، أي أن اختراقها الأمني لا يستدعي أي رد فعل دبلوماسي كما كانت حال اغتيالات إسرائيل لقادة فلسطينيين في دول عربية أو أجنبية.
الغريب الذي يؤكد أن السياسة الإسرائيلية أبعد من أنف «حماس»، هو أنه كما حدث خلال ما قامت به حركة «حماس» من عمليات عسكرية في العمق الإسرائيلي في أواخر تسعينيات القرن الماضي، حيث كانت ترد إسرائيل باستهداف قوات الأمن الوطني الفلسطيني ومقرات أمن السلطة، لأنها مشروع دولة فلسطينية، فإن «حماس» التي تعتمد على المجموعات العصابية لإظهار «قوتها» التي هي أكبر من حجمها الشعبي بما لا يقاس في الضفة الغربية، ورغم أنها تعلن بوضوح مسؤوليتها عن الخلايا التي تقوم بتلك العمليات، فإن رد الفعل الإسرائيلي يطالب برأس الرئيس محمود عباس ونائبه الأخ محمود العالول!
إسرائيل تعرف جيداً مَن هو عدوها الحقيقي إذاً، وتعلم علم اليقين أن ثمن «حماس» إنما هو ثمن بخس، فهي تقوم بتقليم أظافر مسيرة العودة مقابل خمسة عشر مليون دولار قطري، وهي تقبل بدولة غزة، وما شعار كسر الحصار إلا مطالبة نهائية بإعلان دولتها في غزة والاعتراف بها رسمياً بهذه الصفة، وما إشارة أحمد بحر، أحد قيادات «حماس» الهامشية، حين قال: إن «حماس» في ذكرى انطلاقتها الحادية والثلاثين، قد تحولت إلى العالمية، في إشارة إلى جولة وفدها «البرلماني» لكل من جنوب إفريقيا وتركيا، وأيضاً للدعوة الروسية لإسماعيل هنية، إلا خير دليل على ذلك.
وفي غزة، لا ضير من السماح للفصائل خفيفة الوزن أن تحتفي بذكرى انطلاقتها، باستثناء «فتح»، لأن الآخرين يقبلون موقع التابع لـ»حماس»، الذي يعزز حكمها، والذي يقوم بدور «المبيض» أو المظهر لمكانتها ودورها، إلا «فتح» بالطبع، حيث إننا شاهدنا كل عام بمناسبتي ذكرى رحيل ياسر عرفات وذكرى انطلاقة «فتح» التي تعتبر ذكرى لانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، فإن «حماس» تمنع ذلك الاحتفاء، لأن «فتح» هي الفصيل الوحيد الذي ما زال يقف عقبة في طريق إجهاض المشروع الوطني المتمثل بإقامة الدولة على حدود 67 مع حق العودة والقدس عاصمة، واستبداله بدولة غزة، مع هدنة، كما فعلت الدول العربية مع إسرائيل عام 1948.
أن تظل «حماس» بذلك بمثابة حصان طروادة في الواقع الفلسطيني، ما هو إلا نتيجة تراكم الترهل السياسي داخل الحالة الفلسطينية وعدم المزاوجة بين الكفاح الداخلي والخارجي، وما هو إلا تراكم لليأس والإحباط، فكل أفعال «حماس» حتى في مواجهة الاحتلال ما هي إلا ردود فعل، وما هي إلا بحساباتها الخاصة، التي تتوافق مع الإرث الإخواني، ومع مشروع إقامة الدولة/الإمارة، ذات الطبيعة الأيديولوجية والخارجة عن الإطار الوطني الفلسطيني، فـ»حماس» تعرّف نفسها على أنها حركة إسلامية أكثر منها حركة وطنية، وهي لا تؤمن، بل ولم تمارس العمل الجبهوي ولا بأي شكل أو درجة، لا في الانتفاضة الأولى ولا في الحكم، لا في المقاومة ولا في السياسة.
بقلم/ رجب أبو سرية