الإنعزالية الفئوية بمعناها الخاص في المجتمع الفلسطيني هي مرادف الفئوية الحادة المعبر عنها بدقة في مجمل مكونات الخارطة السياسية الفلسطينية، والفئوية الحادة تحجب الشراكة والديمقراطية وتقترب حد التماثل مع القبلية التي تسيطر على المجتمع العربي ما قبل الإسلام وحتى اليوم، ولا غرابة هنا في منتوج أو إنتاج أحزاب سياسية بثوب قبلي رافض لمغادرنها إلى حالة أرقى من المواطنة مهما حملت أو إدعت حمله من أفكار تحررية تنوب عن مواطنيها سعيا للعدالة وتقليص الظلم الإجتماعي.
مازلنا نشهد من هذه الأحزاب ذات العقلية الإنعزالية الفئوية القبلية نظرات ومعاملات وتدويرات طاردة للكفاءات وتفتح ساحاتها مرتعا لمؤامرات وشللية تصون الجهل والفهلوة وتقدمه في صفوفها على حساب العلم والمعرفة والنزاهة، وهذه جزئية هامة من ضعف تلك الأحزاب وانتكاساتها المتكررة وبالنتيجة فشلها جميعا في تحرير الأرض وإنجاز الإستقلال في فلسطين.
الإنعزالية الفئوية هي الصفة أو الخاصية التي تتحكم في المشهد الفلسطيني منذ النشأة الحزبية الأولى، وعلى ما يبدو ستستمر طويلا في إعاقة مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية وتكبيل النظام السياسي الوليد،
ولمعرفة ماهية خطوة "التجمع اليساري الجديد" ، لابد من فهم ما يجري وهل هو تعبير عن إعادة تموضع معزول لإنقاذ الذات، أم هو طوق نجاة لإنقاذ للحالة الفلسطينية بمجملها، وهنا لابد من التطرق للظروف الذاتية الحزبية اليسارية والظروف الموضوعية في صورة الواقع والمجموع، أي في صورة النظام السياسي العام وأزمته وأزمة الوطن والشعب والإنقسام.
ولنبدأ بالنظام السياسي وهو المتكون الأحدث في الخارطة السياسية الفلسطينية في ساحة الوطن المؤقت في قطاع غزة وبعض مناطق A و B في الضفة الغربية الذي تشكل بعد أوسلو، وإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية في مرحلة كان شعارها الإنتقال من الثورة إلى الدولة بإستكمال هيكليات ومؤسسات الدولة وبسط حكم السلطة أو الدولة على باقي أراضي ١٩٦٧ التي كان التصور بأن إسرائيل كدولة محتلة ستعيدها بعد الإنسحاب منها وهي ما عرفت بمناطق C، والوصول لحل للقضايا الخمس المؤجلة، وكانت الإنتخابات التشريعي والرئاسية تعبيرا عن تكريس السيادة فماذا جرى؟؟
أجريت أول انتخابات تشريعية ١٩٩٦م و سيطرت فتح علي أغلبية عظمى تكاد لا تذكر معها كتلة اليسار مجتمعة وهذا ليس تقليلا من دور اليسار بل لأن هذه النتائج كشفت أولا عن حجم كتلة اليسار الأضعف، وثانيا عن وجهة تشكيل المجتمع من خلال غالبية فتحاوية أدت لخلاقات داخلية بين أجهزة السلطة الفتحاوية نفسها وساد الفئوية في المجتمع وانتقلت لخلافات جهوية ومصلحية إبتعدت عن الصالح العام وحتى عن القضية الوطنية نتيجة ضعف المعارضة التي تمثلت ليست بكل كتلة اليسار بل كان من اليسار من كان في حجر فتح وأقرب لها من باقي اليسار ، وبتطور الحالة نحو الانفلات والفساد في مؤسسات السلطة التي قادتها فتح وحلفاؤها من اليسار القديم الجديد ولم يتبق من معارضة حقيقية إلا الجبهة الشعبية بعدد قليل غير مؤثر في الخارطة السياسية الوطنية في ذاك الوقت ولم يكن في مقدورها ضبط إيقاع التسلط والاستفراد بالقرار.
ترهل حال السلطة وعمدت إسرائيل عبر حكومات اليمين واليمين المتطرف بعد مقتل رابين إفشال حالة السلم التي انتظرتها السلطة التي تقدمت على دور فتح وعلى دور منظمة التحرير وأصبحت مرجعية الحكم والادارة والمال والعمل والاستثمار وانحرف العدل الاجتماعي وفسدت السلطة بكل مؤسساتها وتحولنا لسلطة بوليسية تقمع المعارضين من كل الألوان وتستأثر بمقدرات البلد وكان المجتمع يتغير وانتعشت الجماعات الاسلامية رغم قمع السلطة وهنا أود الإشارة لغياب دور المعارضة اليسارية في التصدي لتلك الحالة لضعفها كما أسلفت وإكتفت بمكاسب الهمل الأهلي والتوسع في مؤسسات المشاريع وتلقي الدعم لها.
بمفاجأة الجميع بنهوض التيار الإسلامي/ حماس/ المتربص لحالة التدهور وإجتياحه الشارع ومقاعد التشريعي في انتخابات العام ٢٠٠٦م حدث انقلاب في النظام السياسي الفلسطيني إستمر يأخذ من رصيد اليسار القليل أصلا وحتى من رصيد فتح، ودخل الشعب الفلسطيني في كارثة وطنية مستمرة حتى اليوم بعد إنقلاب حماسة وإستيلائها بالقوة على قكاه غزة وفشل استعادة الوحدة الوطنية وقد تطيح حالة الإنقسام بقضيتنا إذا لم تتيسر قيادة جماعية جديدة ومصالحة، ولكنا ذكرنا أعلاه بأن أحزابنا فئوية قبل حماس، أما بعد حماس فأدخلت خاصية أكثر تخلفا من الفئوية وهي خاصية الأستئصال والأنا العليا للأحزاب وغياب مفهوم المشاركة بالكامل.
مع إنعقاد المجلس الوطني الأخير الذي كان محطة لمغادرة اليسار حالة الإحتواء التي مارسها الرئيس عباس لممثلي اليسار، ونعود نؤكد على أن الجبهة الشعبية كانت في علاقة متأزمة مع الرئيس في السنوات الخمس الأخيرة وترجمت الأزمة عمليا حين وصلت لحد الأعتداء على ممثل الجبهة الشعبية في اللجنة التتفيذية بعد غياب ملوح فكانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير وهي ليست السبب، فالسبب تراكمات سلبيات حكم وديكتاتورية الرئيس وعدم تنفيذ مقررات المجلس المركزي تحاه العلاقة مع اسرائيل.
قاطعت الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية المجلس الوطني، أما فدا والمبادرة فحضرتا الإجتماعات وشاركتا في اللجان وتسمية المجلس المركزي لكن شابت علاقاتهما وتصريحات قاداتيهما لغة عدم التوافق مع نهج الرئيس وتصرفات المجلس الوطني وعد تطبيق قرارات سابقة تتعلق بالتنسيق الأمني والاعتراف باسرائيل والعلاقة مع الاحتلال، ولم يتبق من اليسار متواققا مع الرئيس إلا حزب الشعب وجبهة النضال من اليساريين وجبهات البعث .
وفي غزة توافق اليساريون الجبهتين وحزب الشعب والمبادرة مع الاسلاميين حماس والجهاد ومشاركة التيار الإصلاحي فتح في فعاليات مسيرات العودة تحت قيادة إئتلافية واحدة للمسيرات كأول عمل وطني جماعي خارج سيطرة منظمة التحرير وبعيدا عن فتح عباس .. أي أن حالة وطنية جديدة تشكلت في غزة، كان المتوقع أنها خطوة في اتجاه تشكيل "جبهة إنقاذ وطني" للتصدي لمؤامرة تصفية القضية الفلسطينية عبر صفقة ترامب، و التي كانت، أي جبهة الإنقاذ، يجب أن تشكل الأولوية لهذا الإئتلاف الوطني الجديد والمبشر بنهوض فلسطيني، وهنا كانت الخطوة الغامضة بالذهاب للثانوي على حساب الرئيسي الذي كان هو التصدي لصفقة ترامب، حيث مصير القضية والوطن مقدم على الثانوي "أزمة غزة والحصار " والذي كان واضحا أن شعار مسيرات العودة الذي بدأت به المسيرات ليست بهدف العودة، بل ظهر في الأسبوع الثالث أن الهدف من المسيرات هو رفع الحصار والهروب بالجمهور للحدود بدل انفحاره داخل غزة على خلفية الانسداد في المصالحة وتفاقم الحالة الإقتصادية نتيجة عقوبات رام الله وقطع رواتب موظفي السلطة المركزية في رام الله،
بمرور الوقت عادت حالة الإنسداد في المصالحة وتراجع زخم المسيرات وبدء البحث عن التهدئة.. وعدنا للحالة التي سبقت المسيرات وعادت الأحزاب للنظر حولها وماذا تفعل؟؟
نعود لموضوع التجمع الديمقراطي اليساري الجديد ونقول لابد من فحص حالة تلك الأحزاب التي يتشكل منها التجمع الجديد ومواقفها طوال فترة حكم السلطة أيىمنذ نشأة السلطة وبعد الانقسام لنرى إمكانية نجاح واستمرار هذا التجمع من عدمه وقوته على الأرض هذه الأثناء ؟
وما الذي يمكن أن يحققه هذا التجمع على صعيد المستقبل والأوضاع المأزومة حد التعقيد المركب في الحالة الفلسطينية، وهل التجمع هو حالة تموضع معزول أو طوق نحاة لإنقاذ الحالة الفلسطينية المعقدة ؟؟
هل فحص حالة تلك الأحزاب المكونة للتجمع يشكل نقطة مهمة؟؟ بمعنى فحص مواقفها المتناقضة في العلاقة مع السلطة والرئاسة وحماس وقربها أو بعدها عن أدوات النضال والمقاومة المسلحة والمقاومة الشعبية، أم، لا داعي لذلك الفحص مادام تم الإعلان عن إنطلاق التجمع وأولى فعالياته يوم ٥/١/٢٠١٩ ، ما يعني أن هناك اتفاق وتوافق على هذه القضايا من خلال الحوارات التي سبقت الإعلان، وعليه نذهب لمعرفة الأهداف التي إنطلق منها التجمع، غير وحدة اليسار ، فنرى أن التحمع يتحدث عن هدف إنهاء الإنقسام وتبني استراتيجية موحدة لإسقاط «صفقة القرن» ومجابهة التطبيع، ومواجهة التحديات الوطنية الراهنة في مقدمتها الانقسام الفلسطيني، وللنهوض بالمجتمع الفلسطيني من أجل الحرية والتعددية ودعم صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته في وجه الاحتلال والاستيطان والحصار.
هذه أهداف وطنية نبيلة وشعبنا في حاجة ماسة لمن يحمل راية لتحقيق هذه الأهداف ونحن نؤيدها.ولكن،
وبالمجمل أقول إن الحامل لبرنامج أهدافه المذكورة أعلاه يجب أن يضع في الإعتبار الإجابة على التساؤلات التالي :
١- هل نحن في حاجة إلى تجمع فئوي يساري إنعزالي جديد في مواجهة تجمعين فئويين إنعزاليين منقسمين في الخارطة السياسية الفلسطينية أحدهما شريك لكل عناصر التجمع الجديد في منظمة التحرير والآخر مناقض لهذا الإطار الفلسطيني الجامع فكريا، وكيف ستكون من الأهداف المحافظة على منظمة التحرير وتطويرها في ظل غياب عن المجالس التمثيلية ؟؟
٢- كيف يمكن مجابهة التطبيع وإسقاط صفقة القرن دون "جبهة إنقاذ " تتكون من طيف واسع من الفلسطينيين على كافة مشاربهم الفكرية يهدفون لإسقاط صفقة القرن من فتحاويين وإسلاميين ومستقلين ونحن نبدأ بتقوقع يساري بحت ؟؟
٣- الحالة الثورية المطلوبة للنهوض من أزمة الواقع الفلسطيني هي حالة فلسطينية جامعة تستنهض من الأحزاب "" الثوريين الحقيقيين "" وخاصة فئة الشباب الذين باتوا لا يؤمنون بالعمل الفصائلي الذي كان جزءا من الأزمة، وليس قيما عليها، والمشاهدات تقدم عناصر أزمة الفصائل المتحدة كما هي،بقياداتها نفسها، وكأنها عملية تدوير في المسميات، وهي قيادات فشلت سابقا، وأطاحت بالديمقراطية داخل أحزابها، وكانت سببا في تأخر فصائل اليسار كلها.
٤- كان يمكن فهم هذه الخطوة في سياق توحد لليسار يأتلف فيها هذا التجمع المتناقض في المواقف تاريخيا والاستراتيحيات لد وهو يحتاج لوقت أطول بكثير لتعزيز التناغم وتحديث هياكل الحزب الجديد ونظامه الداخلي وإنصهار الجميع في برنامج عمل محدث يطور وحدة اليسار الفلسطيني أولا، قبل السعي لتطوير وتحديث إئتلاف وطني موسع مثل منظمة التحرير، وإلا وضع أهداف كهذه الأهداف يصبح إجتهادا نظريا دون ممارسة الديمقراطية الحقيقية داخل التجمع أولا، لنرى النتائج في بيت التجمع أولا، خاصة وأن تجربة أو محاولة الوحدة اليسارية قد مضى عليها عقود وهي تتعثر على الدوام، فهل زالت عناصر التعثر فجأة؟؟
٥- وماذا عن المؤسسات غير الحكومية لكل حزب فهل ستخضع لقيادة واحدة أم ستبقي لكل حزب على حدا، وهيئات حزبية كتيرة تتطلب توحيد، وكيف يكون تجمع سياسي قيادي فقط لتنسيق المواقف دون وحدة وانصهار كامل لكل نشاطات وممنلكات أحزابه ومبني على رؤية واضحة منذ البدء ؟؟
والسؤال الهام والأخير عن ماهية التجمع،
هل التجمع حزب سياسي متكامل عناصر الحزب من رؤية وأهداف وبرنامج واداة نضالية ووحدة هيئاته التنظيمية ومؤسساته البحثية والعلمية والمهنية والتشغيلية؟؟؟ أم هو
تجمع من أحزاب مستقلة تتفق في الرؤية السياسية وتتبنى أيضا برامج مشتركة ومواقف واحدة بإسم التجمع ؟؟؟ أم
أن التجمع هو "هيئة قيادية" تنسق بين الأحزاب داخل التجمع وتقود العمل والموقف السياسي فقط دون وحدة حزبية متكاملة ودون أن تنصهر فيها المكونات تماما ؟؟؟
د. طلال الشريف