قبل يومين كنا في السيارة فأخذت طفلتي التي بلغت يوم أمس السادسة تصدح بأغنية "يا جماهير الأرض المحتلة".
التفت إلى الوراء والكلمات تندفع من فمها الصغير بحماسة ويدها تتحرك في كل اتجاه منفعلة ومنسجمة مع الأغنية التي لابد أنني أيضا رددتها وأنا طفل قبل أربعة عقود من الزمن حين كنت بمثل سنها.
بنفس الحماسة ونفس الانفعال ونفس حركات اليد. كان الزمن غير الزمن وكان السياق مختلفا كثيراً لكن الطفل ذاته طفل، والمعني يظل نفس المعني والأثر يبقى نفس الأثر.
الأغنية التي تستطيع أن تحافظ على بريق معناها مهما اختلف الزمن وتبدل السياق، الأغنية التي تنتمي لروح الجماعة التي كتبت لها تظل رغم كل شيء.
يبدو هذا مهماً في سياق شيوع الأغاني التي يتم إلصاق كلمة وطنية بها زوراً وبهتاناً فيما هي ليست إلا محاولات بائسة لصبغ التراث الوطني بثوب الحزب والحركة.
يبدو هذا مهماً لأننا في ظل فوضى الأغاني الوطنية التي لا تنتمي كثيراً إلى صفتها الحقيقية "الوطنية" ولا هي ربما من الأساس يمكن أن تنسب إلى الفن الذي تصبو إلى حمل اسمه: "الأغاني".
يبدو هذا مهما لأننا دائماً بحاجة لتذكر الفرق بين العمل من أجل الوطن والعمل من أجل الحزب والتنظيم السياسي.
والشيء نفسه ينسحب على الغناء الذي يكتب من أجل الوطن وذلك الذي يقوم بلي عنق الأغاني التراثية حتى تتلاءم مع تمجيد الحزب.
مرة أخرى دائماً هناك فرق كبير بين الوطن والتنظيم أو الحزب. من المفترض وفق منطق الأشياء ألا يختلفا لكن في سياق متوتر، سياق يمتص أزمات وتوجهات المحيط، بل يسعى بعض أركانه من أجل استيراد أزمات خارجية وحقنها في الجسد الوطني، يتم تغليب الشخصي والحزبي على العام والوطني.
وهذا سؤال كبير في تاريخ السياسة لم يتم تفكيك مفاصله عبر الفكر السياسي خلال قرون طويلة من إعمال مبضع التحليل في مثل تلك الأسئلة الوجودية من باب الشخصي والعام والأخلاق ومعنى المنفعة العامة.
وهذه أسئلة كبيرة اجتهد في الإجابة عنها كل فلاسفة الفكر السياسي ولم يوجد اتفاق عام على إجابة محددة.
مع هذا كانت هناك دائماً منطقة رمادية تحمل الكثير من المعاني. إنها المعاني التي تشير إلى الاتفاق العام والحس العام بما يشير إليه من الحدود الدنيا المطلوبة.
وفي ذلك هناك وفاق على ضرورة تغليب المصلحة العامة – هنا يختلف تفسير ماهيتها - على المصالح الشخصية في الحكم - أيضاً هنا يختلف التعريف.
ومع هذا فإن السياق العام يقرر ما هي تلك الحدود. لكن حين تنهار هذه الحدود وحين يتم استلاب الإرادة العام ومصادرة التطلعات الجماعية والتضحية بالمقاصد المشتركة في سبيل أجندات فردية وحزبية يختلف الأمر ويخرج عن نطاق الحدود الدنيا ويصبح الأمر رهيناً للصراعات الداخلية وللمصالح الحزبية الضيقة، ويتم، وفق ذلك التضحية بالوطن.
يناسب هذا الحديث الإشارة إلى الغناء الوطني المعاصر وما يتسم به من لزوجة حزبية لا تساعد على ديمومته وإثرائه للذائقة الوطنية العامة. يغضب المرء وهو يسمع تلك الأغاني التي يتم فيها تحريف الكلمات الوطنية الأصيلة والأصلية ويتم استغلال اللحن وما يمثله من ذاكرة حميمة في وعي الناس وأذنهم من أجل تمجيد الحركة الفلانية وأفعالها البطولية – وهذا مختلف عليه طبعاً - ومن أجل تخليد المآثر الحزبية على حساب المآثر الوطنية الكبرى، المآثر التي يجتمع عليها الناس وتتفق عليها ذائقتهم ووعيهم.
عمليات قرصنة وسطو واضحة على تاريخ الناس ومشاعرهم الوطنية واستغلال بشع للتراث. كنت وعلى هذه الصفحة ربما قبل عقد من الزمن قد أشرت إلى ذات القضية وطالبت بضرورة حماية تلك الأغاني الخالدة في وعينا من هذا السطو البشع والقرصنة الحزبية من خلال تسجيل تلك الأغاني كملك عام لا يجوز تحريفها أو استغلالها من قبل فرق الإنشاد التي تحرف ذائقة الناس والمطربين النشاز.
هذا جهد وطني يجب على وزارة الثقافة والدوائر المختلفة في الدولة القيام به حتى تتم حماية هذا التراث من السرقة وحتى نحمي حقوق أولئك المؤلفين والملحنين والمغنيين الكبار الذي كتبوا بالدم لفلسطين وغنوا لها بالألم ولحنوا لها من أوتارهم وأعصابهم، كثير منهم قضى وبعضهم ما زال يجلس بحسرة وهو يرى عمليات القرصنة الحزبية والسطو المسلح على تراث تم الحفاظ عليه بعرق ودماء.
هذا يتطلب جهداً أكبر تجاه الحفاظ على التراث والفلكلور الذي حافظت عليه عبر أجيال فرق عظيمة ظلت في الوعي الجمعي من "الفنون" و"العاشقين" إلى "صابرين" وقبلهم فرق الثورة الفلسطينية وفرق الإذاعة.
كل ذلك بحاجة إلى إعادة ترتيب حتى نستطيع أن نعبر الزمن نحو المستقبل الذي نرغب فيه. الفن الجيد هو الفن العابر للزمن والنصوص الجيدة هي التي تصلح عادة لأكثر من عصر وتظل تعني أكثر من شيء لأكثر من زمن، تحافظ على بريقها وتعبر به إلى الأزمان اللاحقة، لذلك نظل نردد قصائد المتنبي وقبله امرئ القيس وبعدهما شكسبير ونقرأ بشغف كل النصوص العظيمة.
إنه البريق الذي جعل طفلتي ابنة السادسة تحفظ بعفوية كلمات محمد حسيب القاضي في أغنيته الشهيرة "يا جماهير الأرض المحتلة" كما حفظها والدها قبل أربعة عقود. هذا ما يجب أن نحافظ عليه ونعمل على حمايته من أجل العبور إلى المستقبل.
مع هذا فإن المرء يشعر ببعض الأمل حين يرى الفضائيات وقنوات التلفزة المحلية والإذاعات المحلية تستعيد هذه الأغاني العظيمة وقت الشدة، ووقت الشدة عادة ما يكون لحظات التصعيد الإسرائيلي، كأنهم يدركون حقيقة الأمر: إن الناس لا يتقبلون إلا هذه الأغاني، التي ربما تكون نفس الإذاعات قامت قبل ذلك بتحريفها لكن دون طائل. إنه البريق الأخّاذ للفن الجميل وللوطنية الصافية التي تفوح شذا من تلك الأغاني بكل ما عنته لي ولجيلي وللأجيال اللاحقة.
بقلم/ عاطف أبو سيف