عن المحكمة (الدستورية!) وحل المجلس التشريعي

بقلم: أيوب عثمان

إذا كان القضاء هو السيد الذي يقضي فيحكم ولا يحكم عليه، يُقَعد به ولا يقَعَّد، وإذا كان القضاء غايته العدل واجتثاث الفساد، فكيف يكون حال القضاء إذا كان فيه ما يشوبه من فساد؟!

وهل فكر أبومازن واستشار في شأن تشكيل المحكمة الدستورية من الغيارى والأخيار؟ يبدو أنه لم يفكر، ولم يستشر، حتى وإن استشار، فإنه بالقطع لم يحسن اختيار من يُستشار، فاستشار من الأشرار، فكانت الطامة الكبرى.

أولاً: في تشكيل المحكمة الدستورية (دستوريتها من عدمها):

صحيح أن المحكمة الدستورية، ضرورية لاستكمال مكونات الدولة وركائزها ومؤسسات العدالة فيها، وصحيح أنها استحقاق دستوري وقانوني لإسناد الشرعية الدستورية والقانونية وحمايتها، غير أن هذه الضرورة لم يأت دورها بعد، ولم يَحِن موعد استحقاقها بدليل قوة ودقة  نص المادة (7) من قانون تشكيل المحكمة الدستورية رقم (3) لعام 2006، وبدليل حتمية الالتزام بصريح منطوقها الذي جاء فيه بكل وضوح وصراحة ومباشرة أن: "يؤدي رئيس المحكمة الدستورية ونائبه  وقضاتها أمام رئيس السلطة الوطنية قبل مباشرة أعمالهم، بحضور كل من رئيس المجلس التشريعي ورئيس مجلس القضاء الأعلى، اليمين التالية:" أقسم بالله العظيم أن احترم الدستور والقانون وأن احكم بالعدل،  وعليه، فالسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: إذا كان نص اليمين في المادة (7) من قانون تشكيل المحكمة الدستورية رقم (3) لعام 2006 يقول حرفياً:" أقسم بالله العظيم أن أحترم الدستور والقانون، وأن أحكم بالعدل"، فكيف لحالف اليمين أن يبر بيمينه ويرعاها، فيحترم الدستور والقانون في ذات الوقت الذي جاء فيه هو على جثة الدستور والقانون؟! وكيف له أن يحكم بالعدل في ذات  الوقت الذي جاء فيه قاضياً يتناقض، في الأصل، وجوده مع العدل ويخالف أحكام العدالة؟!

    وزيادة على ما سبق، هل المحكمة الدستورية منشئ للحياة الدستورية، أم مكمل لها، أم متوج نهائي لأركانها؟ فإذا كانت المحكمة الدستورية  متوجاً للحياة الدستورية وليست مكملاً لها عندنا، فإن هذا يعني أن تشكيل هذه المحكمة لم يَحِن، بعدُ، موعده الذي لا يحين إلا بعد أن نستعيد لبلادنا الحياة  الدستورية الطبيعية - ولو نسبياً - متمثلة في إجراء انتخابات عامة، رئاسية وتشريعية، ومتمثلة أيضاً في استعادة توحيد منظومة القضاء الفلسطيني المنقسم.

المحكمة (الدستورية!) التي صدر في إبريل 2016 مرسوم رئاسي بتشكيلها كأول محكمة (دستورية!) في بلادنا، هي محكمة جاء وصفها في المرسوم أنها (دستورية!)، غير أنها ليست كذلك أبداً، ذلك أن هذه المحكمة لا تستطيع أن تمارس رقابتها على دستورية أو انعدام دستورية القوانين والتشريعات وتفسير النصوص والفصل في تنازع الصلاحيات والاختصاصات، لا لشيء إلا لأن هذه المحكمة ذاتها قد جاء تشكيلها بمعزل عن القوانين والتشريعات التي من صلاحياتها الفصل في مدى دستوريتها وفي تنازع اختصاصاتها وفي تفسير نصوصها.

المرسوم الرئاسي القاضي بتشكيل المحكمة (الدستورية العليا!) الفلسطينية وضع قبل الحصان عربة تجره، فيما أن هذه العربة التي تجر الحصان إنما ينبغي للحصان أن يجرها، ذلك أن الأصل في تتابع الأمور أن يفهم المسؤول أو الحاكم ماذا يأتي قبل ماذا، وماذا يأتي بعد ماذا! ومن قبيل "ماذا قبل وماذا بعد" في السياق الذي نحن الآن فيه، وهو المحكمة (الدستورية!) الفلسطينية مثار الحديث، فإننا نتساءل وجوباً واستنكاراً:" أتكون الانتخابات التشريعية والرئاسية قبل تشكيل المحكمة الدستورية أم بعد تشكيله؟! إن خير جواب لهذا السؤال هو ذاته خير دليل على مكابرة  من يقول بأن تشكيل المحكمة الدستورية هو استكمال للحياة الدستورية، هو سؤال آخر نصوغه على النحو الآتي:" إذا كانت المادة (7) من قانون تشكيل المحكمة الدستورية رقم (3) لعام 2006 تقضي أيضاً بأن:" يؤدي رئيس المحكمة ونائبه وقضاتها أمام رئيس السلطة الوطنية قبل مباشرة أعمالهم بحضور كل من رئيس المجلس التشريعي ورئيس مجلس القضاء الأعلى اليمين..."، فهل لدينا مجلس تشريعي يعمل أم منقسم ومعطل؟! وهل للمجلس التشريعي المنتخب رئيس يتحرك بحرية؟! وهل تتوفر له مكنة حضور حلف اليمين؟! وإنْ من عائق يحول دون حضوره، أيحضر عنه نائبه الأول أو نائبه الثاني وهل من الجائز دستورياً وقانونياً أن يحضر حلف اليمين عن رئيس المجلس التشريعي نائبه الأول أو نائبه الثاني؟! وإضافة إلى كل ذلك، فهل لدينا مجلس تشريعي طبيعي كي يطلع بدوره في المصادقة على كل ما قد يصدر عن هذه المحكمة (الدستورية!) من قرارات؟!

ثانياً: في اختيار قضاة المحكمة (الدستورية!)

على الرغم من كل ما أحاط بالمحكمة (الدستورية!) العليا الفلسطينية من عوار واضح وفاضح وطافح منذ تشكيلها في إبريل 2016  وحتى اللحظة، إلا أن العوار الأكثر مرارة الذي يلف هذه المحكمة (الدستورية!) لفا لهو الجانب المتصل باختيار قضاتها لو استأنسنا بالبند الأول من المادة (16) من المحكمة الدستورية.

ففي مرسومه الرئاسي القاضي بتشكيل أول محكمة (دستورية!) في بلادنا المحتلة أصلاً، والتي يعترف رئيسها مكرراً بأنه "تحت بساطير الإسرائيليين"،  والتي انقسمت على نفسها في عصره وبفعله وسلبية إرادته وفشل إدارته وسوء تدبيره وسياسته، غرس الرئيس بذور الخراب ووضع معاول الهدم والتخريب والفساد والإفساد، هذه المرة، بتعيينه قضاة لا يصلح بعضهم إلا أن يكونوا للفساد عنواناً، حيث مارسوا الفساد في أحط مستوياته وأبشع مشاهده وأغرب فضائحياته!

فوق كل ما اعترى هذه المحكمة (الدستورية!) من عوار طاغ وعجيب ومعيب، فقد كان العوار أكثر فضائحية وعجائبية وطغياناً دون أدنى اهتمام أو اعتبار لمقولة "إذا بليتم فاستتروا"،  حيث جاء المرسوم الرئاسي مطرزاً بأسماء فاضحة ومفضوحة لقضاة ارتبط بالفساد ذكر بعضهم،  إذ سطا أحدهم على كتاب في القانون بأكمله، ثم وضع عليه اسمه - وهو سارقه بكامله - بدلاً من مؤلِّفَيه الاثنين، ناهيك عن رئيس المحكمة (الدستورية!) الذي أصدر في قضية حكماً مسبقاً يقضى القانون بفساد حكمه، فضلاً عن إنكاره لفوقية القانون الأساسي الفلسطيني وسموه على القوانين الفلسطينية الأخرى وإنكاره لليمين التي تؤكد عليها المادة (7) من قانون المحكمة الدستورية التي يتربع على كرسي رئاستها.

فإذا كان الفساد يمارس – في بلادنا وهي محتله ومنقسمة ومحاصرة – على هذا النحو الفاضح والمخزي والمعيب حتى في تشكيل مؤسسة عدلية اسمها " المحكمة الدستورية العليا" الذي اتضح أن الفساد مؤهل أساس في تشكيلها وفي اختيار قضاتها، فما الذي يرتجى غير الإفساد والتخريب والفساد منها؟! أينتج الثوم ثوماً والبصل بصلاً، أم ينتج هذا بخوراً وذاك عطراً أو عسلا؟!

وإذا كان أحد الذين عيَّنهم الرئيس عضواً في المحكمة الدستورية العليا هو ذلك الذي اضطر إلى الاعتراف بسرقته، مسَلماً بإدانة نفسه التي شهد عليها في حينه زملاؤه الأكاديميون وطلبته وإدارة جامعته، وإذا كان هذا هو ذلك الذي سطا على كتاب بأكمله في القانون عنوانه " تاريخ النظم القانونية والاجتماعية"، فنسبه إلى نفسه دون أدنى خجل أو وجل، ناكراً جهد عَلَمَينْ بارزين من كبار أساتذة القانون في مصر هما الدكتور/ عكاشة عبد العال والدكتور/ هشام صادق، فهل من عدالة ترتجى من لص كهذا بعد سطوه الغاشم وانتحاله الآثم؟!

إذاً، فأي غايات عالية وأهداف غالية ومطالب عادلة وسامية يمكن لشعبنا الواقع تحت مطرقة الاحتلال وسندان الانقسام والحصار أن يبلغها عبر آليات ووسائط وأدوات وأشخاص ليس الفساد الكبير إلا عنوانها وهو أبرز صفاتها وسماتها ومواصفاتها؟! أيُسوَّد الفاسدون، هكذا، على شعبنا فيتحكمون ويحكمون، ويُسَوَّدَ الضعفاء والجوف والساقطون والفاشلون لتسند إليهم أمور الناس فيتوهون أو يستبدون؟! كيف - بالله - تحكمون؟!

ثالثاً: عن قرار المحكمة الدستورية القاضي بحل المجلس التشريعي

فضلاً عن أن حل المجلس التشريعي لم يرد - على الإطلاق - ذكره في القانون الأساسي الفلسطيني، فإننا نورد الآتي، من قبيل التزيد:

  1. طالما كان تشكيل المحكمة (الدستورية!) باطلاً من أساسه، كما أسلفنا، فإن كل ما صدر عنها هو باطل أيضاً. وعليه، فإن القرار بحل المجلس التشريعي هو قرار باطل.
  2. بقوة القانون الأساسي الفلسطيني، فإن أي قرار يقضي بحل المجلس التشريعي هو قرار باطل استناداً للمادة (113) التي تقضي بأنه "لا يجوز حل المجلس التشريعي الفلسطيني أو تعطيله...".
  3. قرار المحكمة الدستورية القاضي بحل المجلس التشريعي هو قرار باطل لتجاوز هذه المحكمة اختصاصاتها  المنصوص عليها في المادة (24) من قانونها الذي لم يشمل، أبداً، حل المجلس التشريعي ضمن صلاحياتها واختصاصاتها.
  4. لا يجوز تفسير أي نص قانوني لحساب الأمزجة والتوجهات والمصالح السياسية، ذلك أن القانون هو القانون والسياسة هي السياسة.
  5. بقوة المادة (47 مكرر) من القانون الأساسي الفلسطيني، فإن المجلس التشريعي يبقى قائماً إلى أن يؤدي اليمين الدستورية مجلس تشريعي جديد منتخب. وعليه، فإن المجلس التشريعي الحالي لا يجوز - في أي حال من الأحوال - حله.
  6. قرار المحكمة (الدستورية!) بحل المجلس التشريعي مع الدعوة لإجراء انتخابات تشريعية فقط دون الرئاسية يضيف إلى دلالة أن مبعث القرار سياسي تماماً وليس قانونياً، الأمر الذي يبطل قرار حل المجلس التشريعي من أساسه.
  7. صدور القرار بحل المجلس التشريعي استناداً على قرار رفع الحصانة عن النائب محمد دحلان هو استناد باطل، ذلك أن قرار رفع الحصانة عن أي نائب هو أمر لا يملك الحق فيه إلا المجلس التشريعي دون غيره.
  8. إن قول رئيس المحكمة (الدستورية!) محمد الحاج قاسم - في مقاله بتاريخ 28/3/2013 -  بأن "القانون الأساسي الفلسطيني  هو قانون عادي، ولو كانت هناك محكمة دستورية وتم عرض هذا القانون عليها لرفضته جملةً وتفصيلا" يؤكد انعدام الدستورية والقانونية في هذه المحكمة وانعدام الدستورية والقانونية في تعيينه رئيساً لها، ذلك أن تعيينه رئيساً لهذه المحكمة كان استناداً للقانون الأساسي الذي نراه ينكر سموه وسيادته وفوقيته على القوانين الفلسطينية الأخرى!
  9. إن طعن رئيس المحكمة (الدستورية!) في وجود المجلس التشريعي أصلاً، في سياق قوله:"... الرئيس المنتخب هو أقوى تمثيلاً من المجلس التشريعي كاملاً"، يؤكد انعدام الصفة الدستورية والصفة القانونية في تعيينه رئيساً لمحكمة توصف بأنها (دستورية!).
  10. إذا كان البت في قرار الطعن بفقدان رئيس السلطة لأهليته القانونية - طبقاً للبند 1/ج من المادة (37) من القانون الأساسي المعدل لعام 2003- لا يعد نافذاً إلا بعد مصادقة المجلس التشريعي عليه بأغلبية الثلثين، يؤكد أن المجلس التشريعي  فضلاً عن أنه لا إمكانية – البتة – لحله، فإنه يعد طبقاً للقانون، قوة مانحة ومانعة في آن.

    وبعد، فقد طالب مجلس منظمات حقوق الإنسان في 26/1/2017 بسحب قرار تشكيل المحكمة الدستورية بعد أن كانت الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق الإنسان المنشأة  بقرار رئاسي  قد عبرت - في حينه - هي وثمان عشرة مؤسسة حقوقية عن اعتراضها على تشكيل أول محكمة  (دستورية!) على النحو الذي جاءت عليه، مطالبة بأن يكون الإعلان عن تشكيل المحكمة الدستورية خطوة لاحقة تتوج إعادة الحياة الدستورية المتمثلة بإجراء الانتخابات العامة (الرئاسية والتشريعية)  وإنهاء الانقسام وإعادة توحيد القضاء الفلسطيني.

    أما آخر الكلام، فإننا نُذكر سالكي دروب الباطل من الحكام والمسؤولين  بالفاروق عمر الذي ذهب إلى أن  الرجوع عن الباطل خير ألف مرة من التمادي فيه، وذلك في سياق رسالته الشهيرة عن القضاء التي كان قد بعث بها إلى أبي موسى الأشعري حين ولاه أمر القضاء فقال:" ولا يمنعنك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق ، لأن الحق قديم لا يبطله شيء ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل....".

 

 بقلم الدكتور/ أيوب عثمان

 كاتب وأكاديمي فلسطيني

 جامعة الأزهر بغزة

 رئيس "جمعية أساتذة الجامعات – فلسطين"