سوريا، شعباً وأرضاً وتاريخاً وحاضراً، قدمها الرئيس الأمريكي ترامب هدية غير مستردة للرئيس التركي أردوغان، وفي هذه الهدية لغم يتفجر في المنطقة، إضافة إلى إهانة الإنسان، وتسخيف حق الشعوب في تقرير مصيرها، والعيش بأمن وسلام بعيداً عن التدخلات الخارجية.
سوريا كلها لك، جملة خبيثة، تكشف عن استمرار الاحتلال الأوروبي للمنطقة العربية، واستمرار التصرف بخيراته، وتقاسم ثرواته، بعيداً عن وهم الاستقلال والتحرر، لتقرر الجملة أن الأمة العربية ما زالت ذبيحة معلقة من عرقوبها، ويوزع لحمها في المحافل الدولية.
سوريا كلها لك، جملة يوحي ظاهرها بالسذاجة والبراءة، لأنها تستخف بالواقع القائم في سوريا، وتتجاهل كل القوى المتواجدة على الأرض، ولكن التدقيق في خلفيات هذه العطية يكشف كم هي معبأة بالمفاجآت والمؤامرة على المنطقة ككل، وعلى الذي اهديت له هذه الأرض الملتهبة تناقضات وصراعات وخلافات عرقية وقومية وطائفية.
الأيام القادمة ستكشف عن اللغم المتفجر الذي تركته أمريكا على الأرض السورية، ولاسيما أن وزير الخارجية الأمريكي قد طالب الجيش العراقي بالتدخل في سوريا لمسافة 70 كيلو متر، دون أن يلتفت لتصريح الرئيس ترامب، الذي أشاد بدور تركيا من جهة، وطالب السعودية بتحمل المسؤولية المالية الكاملة عن اعمار سوريا.
إن التناقض الظاهر بين تصريحات ترامب ووزير خارجيته لا تعكس حقيقة ما يدور في الخفاء، فكلا الرئيس ووزير دفاعه يرميان عن قوس واحدة، وليس في الجعبة إلا سموم الفرقة بين دول الشرق الإسلامية، والتي يمكن أن نستشف منها عدة احتمالات:
1ـ الانسحاب الأمريكي من سوريا يهدف إلى تفجير التنافس على النفوذ بين إيران وتركيا أولاً، ومن ثم تفجير أعقد صراع إقليمي على الأراضي السورية، لتغرق المنطقة في حروب لعشرات السنين، لا يدفع ثمنها إلا شعوب المنطقة، ولا يقطف ثمرها إلا الصهاينة على أرض فلسطين.
2ـ من الجائز أن نتوقع عدواناً أمريكياً على إيران، وبتحريض من إسرائيل، صاحبة المصلحة العليا في تدمير كل قوة ناشئة في المنطقة، ومنافسة لها في آن، وهذا العدوان الأمريكي المحتمل قد يستوجب إعادة تموضع القوات الأمريكية في المنطقة، تفادياً للمخاطر، وطلباً للأمن.
3ـ الاحتمال الثالث ما ذكرته القناة السابعة في إسرائيل، والتي تزعم أن نتانياهو قد طلب من الإدارة الأمريكية الانسحاب، لأنها تخطط لشن هجوم هذا الشتاء ضد منظمة حزب الله اللبنانية، وكانت لديها مخاوف من انجراف القوات الأمريكية في سوريا إليه، وهذا الاحتمال وفق رأيي يتناقض مع الرغبة الإسرائيلية في توريط أمريكا في حروب ممتدة في المنطقة.
ومهما تكن الأسباب الخفية الكامنة خلف قرار انسحاب الجيش الأمريكي من سوريا، فإن كل المؤشرات تدلل على أن هذا الانسحاب المفاجئ ليس بريئاً، ولا يعبر عن خطة غبية انفرادية قام بها ترامب، لترضي غروره ونزواته، بمقدار ما هي خطوة إلى الخلف بهدف القفز خطوات إلى الأمام، فما زالت مصالح أمريكا في المنطقة كثيرة، وما زالت أمريكا كلب حراسة للمصالحة الإسرائيلية، وللأطماع الصهيونية في منطقتنا العربية.
وإذا كانت خطة الانسحاب الأمريكي من سوريا تشغل بال روسيا، وقد وضعتها في سياقها العام، وهي تحذر من خطورتها، فالأجدر أن تشغل بال تركيا، المستهدفة رقم واحد من هذه الخطة، التي تقوم على زج الجيش التركي في حروب ومعارك بالإنابة، حروب لا تخدم مصالح الشعب التركي الناهض، ولا تخدم مصالح شعوب المنطقة بشكل عام، وهي تتطلع للتحرر من نفوذ الكبرى، والخلاص من تسلط أمريكا وإسرائيل.
د. فايز أبو شمالة