من الرصاص المصبوب إلى حرب تشرين الثاني 1918 فشل اسرائيلي في تحقيق الأهداف

بقلم: عبد الحميد الهمشري

في الذكرى العاشرة لحرب الرصاص المصبوب التي اشتعل إوارها في 27 ديسمبر/كانون الأول 2008 حيث بدأ الاحتلال الصهيوني عدوانه العسكري على قطاع غزة بعملية أطلق عليها "الرصاص المصبوب"، في حين أطلقت عليها المقاومة الفلسطينية "معركة الفرقان" ، وذهب ضحيتها من الفلسطينيين ما يزيد عن 1400 شهيد وآلاف الجرحى ، ناهيك عن الدمار الكبير الذي لحق بالمباني والبنية التحتية في القطاع ، في هذه الذكرى دروس وعبر حيث يعد هذا العدوان الأشد عنفاً ودموية على مدى الصراع منذ قيام الدولة العبرية ، واستمر زهاء 22 يوماً ، مبتدئاً باستهداف ما ينوف عن 60 طائرة اف 16 الهجومية وطائرات الأباتشي مجمعات حماس الأمنية والتدريبية ومستودعاتها بإلقاء أكثر من مئة طن من القنابل عليها فخلف القصف الجوي في ضربته الأولى أكثر من 228 شهيداً و780 جريحاً ، حيث لم تسلم منه دور العبادة ولا الشوارع والطرق الرئيسة ولا ورش الحدادة ولا المستشفيات ولا مستودعات الأدوية ولا المحطات الفضائية العاملة والكوادر الصحفية هناك ولا مؤسسات المجتمع المدني كدور الرعاية والهيئات الخيرية ولا المدارس ولا الصروح العلمية كالجامعة الإسلامية في غزة حتى الحاجز الحدودي بين رفح المصرية والفلسطينية طاله القصف مرات عديدة وبقنابل حارقة واهتزازية .. ويمكن وصف ما جرى باستباحة غزة كأرض محروقة من جانب الجيش الصهيوني وسلاحه الجوي ... واستمر العدوان حتى التاسع عشر من يناير كانون الثاني من عام 2009 ، وكانت هناك تغطية إعلامية غربية غير منصفة حيث قامت على الأقل خمس من كبريات الصحف الغربية منها هيلوموند الفرنسية ودير شبيغل الألمانية ولا كوريري ديلا سيرا الإيطالية وذي إندبندنت وغارديان البريطانيتان في محاولة منها على التغطية وإخفاء حجم الدمار والقتل الذي خلفه القصف الإسرائيلي على غزة باستخدام تصوير رمزي موحد لما حدث بصورة رجل مصاب يمشي على قدميه بمساعدة شخصين تبدو وراءه مخلفات القصف الإسرائيلي ، ومع أن الاحتلال ألحق خسائر فادحة على أراضٍ محتجزة بين معبر رفح وبحر وعدو صهيوني متنمر ، إلا أنه أعقبت هذا العدوان اعتداءات ثلاثة أخرى على مدى عشر سنوات هي «عمود السحاب» عام 2012، و«الجرف الصامد» عام 2014 ، والاشتباكات التي جرت مؤخراً إثر تنفيذ القوات الإسرائيلية لعملية سرية في شهر تشرين الثاني من العام الجاري 2018 واستمرت لأيام عديدة استهدف الطيران والمدفعية الإسرائيلية مراكز حساسة منها تدمير مبنى فضائية الأقصى وفندق ، ورغم الوحشية والدمار الذي ارتكبته القوات الإسرائيلية ضد المقاومة والسكان العزل في مختلف الاعتداءات ، لم تستطع حسم الأمر في غزة ولا زال المرجل يغلي وقابل للانفجار في أية لحظة حتى أن الأمر بدأ يخرج عن نطاق السيطرة في مناطق الضفة الغربية بعد أن طفح كيل تجاوزات ما يطلق عليهم بالمستوطنين الذين تمنحهم حكومات الاحتلال تحت ظلال الحراب ، الأرض التي تستولي عليها غصباً لتمنحهم إياها وتعطيهم النفس في حماية جيشها الباغي ، والمستقبل ينبئ بترتيب الصفوف في الأراضي الفلسطينية المحتلة لجولة خلاقة تجتث العدو من جذوره بعد أن طفح الكيل حتى وصل الزبى ، ولم يعد للصبر مكان بعد أن طفق الصبر ذاته من تمادي العدو في العدوان.
وعودة إلى بدء فإن بعض المحللين يرون أن اعدو الصهيوني قد فشل في مسعاه ترويض الفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر ، وعاجز في العودة لحكم قطاع مكتظ بالسكان بنفسه، فما يقض مضاجعه أن فصائل المقاومة هناك يتعايشون بين السكان المدنيين ما يحول دون تمكنه من التفرد بهم ، فهم الحاضنة الشعبية لهم وبحرها الذين يتنفسون في ظلاله ، ولخطورة هذا الأمر للكيان الصهيوني وحليفتها الأولى (أمريكا) أفردت أكبر مؤسسة «راند» اليهودية للدراسات في الولايات المتحدة، مجموعة من كبار محلليها المخضرمين لكتابة تقرير للتعرف على ما حدث في تلك الحروب والدروس المستفادة منها تحت ذريعة أنها وضعت التقرير ليستفيد منه الجيش الأمريكي في حروبه المستقبلية ضد أي قوة صغيرة تعتمد حروب العصابات أو تستخدم الأنفاق كما هو حاصل في القطاع الصامد أهله امام الحصار والعدوان وإسقاط المؤامرة الصهيو أمريكية على القضية الفلسطينية ، فالتحديات التي يواجهها العدو الصهيوني في غزة وفق التقرير كبيرة وتتضاعف كما ذكرنا بعاليه وعبر التقرير عن تبلور مجموعة من الدروس التي تراها المؤسسة مستفادة من التحديات التي تواجهها الجيوش المتقدمة عند مواجهة خصوم ذوي إرادة ومتكيفين ومختلطين بالمكان، وخصوصًا في المناطق الحضرية. ولعل عملية الرصاص المصبوب وما تلاها من معارك تعطي الدروس والعبر لجيش الاحتلال ، منها أن القيود التي واجهتها القوة الجوية للجيش العبري في العمل فوق القطاع ، كانت مأخوذة بما أسماه المستشار السابق بوزارة الخارجية الأمريكية «إليوت كوهين» بـ«سحر القوة الجوية»، فاستنادًا إلى التجربة الأمريكية في حرب عاصفة الصحراء 1994، أكد كوهين أن القوة الجوية تبدو وكأنها توفر حلًا سحريًا استراتيجيًا، لكن الحقيقة أن هذا وهم فتأثيرات سلاح الجو محدودة، ولا يمكن أن تكون بديلًا للحروب الفوضوية والمتوحشة. وهذا ما اكتشفته إسرائيل جليًا في مختلف حروبها فالضربات الجوية العنيفة، أثبتت عدم القدرة على الحسم رغم عنفها والدمار الهائل الذي تحدثه .


• عبدالحميد الهمشري - كاتب وباحث في الشأن الفلسطيني
[email protected]