قبل أن نكمل رحلة الشك العلمي في المشهد الكوني الذي ترسمه الأطروحات العلمية، وبعد التشكيك بوجود الفراغ المحيط بالأرض، نود التعريج على قضية الاحتباس الحراري، كمسألة علمية فرعية تمثل نموذجًا من نماذج الشك العلمي، فيما يظنّه الناس حقائق، ونناقش ارتباطات المسألة السياسية. ويتزامن نشر هذا المقال مع تصاعد الخلافات في المحادثات الدولية حول التغير المناخي في بولندا قبل أيام.
بداية، يُعرف الاحتباس الحراري ببساطة على أنه ارتفاع معدل درجة حرارة الأرض، وهو ارتفاع لم يتجاوز درجة مئوية واحدة خلال القرن الأخير! ويرى منظّروه أن ذلك أدى إلى ارتفاع منسوب المياه في البحار «مثلًا أربعة سنتيمترات خلال العقد الأخير»، مع انحسار للمناطق الجليدية، وزيادة في حدّة الأجواء المناخية، وقسوة الأعاصير. ويرجعون ذلك كله إلى نشاطات التصنيع والنقل القائمة على الطاقة المتولدة من حرق الوقود الأحفوري «مثل البترول». ونتيجة تصاعد نواتج الاحتراق من ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء وغيرها، وزيادة تراكيزها في الغلاف الجوي، يصبح الغلاف كأنه دفيئة كونية «بيت زجاجي»، فيقلل نفاذيته الإشعاعية «الحرارية» من الأرض نحو «الفضاء»، ويؤدي إلى تراكم الحرارة في الأرض، وإلى تغيرات مناخية: فمثلًا تؤدي زيادة تركيز ثاني أكسيد الكربون إلى زيادة امتصاصها في المحيطات، ومن ثم زيادة حموضة المياه فيها، بما ينعكس على تنوع الحياة البحرية، وهكذا.
وللدقة، هناك من يرجع المشكلة إلى تغيرات طبيعية مثل تغيّر النشاط الشمسي أو الأنشطة البركانية، ولا يحصرها بنشاطات الإنسان، ولذلك تعدّ نشرة رسمية للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ أن المسألة ترجيح لا قطع: (ومن المرجح إلى حد كبير أن يكون التأثير البشري هو السبب الرئيس في الاحترار الملحوظ منذ منتصف القرن العشرين)(1). ووصف الترجيح بحد ذاته ينفي صفة الحقيقة عن المسألة.
ويدعو أصحاب نظرية الاحتباس الحراري إلى التحكم بالعوامل البشرية التي تسهم في الاحتباس الحراري، مثل الوقود والبترول. وهذا لا شك ينعكس على النشاطات الاقتصادية للدول، وعلى المصالح السياسية للحكومات وشركات الطاقة العملاقة، ولذلك فهي قضية سياسية واقتصادية تجري متابعتها على مستوى حكومات العالم، وعبر جهات دولية، منها الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)، التي توفر معلومات لصانعي القرار. وفي السياق نفسه يصدر المعهد الدولي للتنمية المستدامة نشرة مفاوضات الأرض(2)، التي يعرض فيها مستجدات اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيّر المناخ، التي ناقشتها مؤتمرات في جنيف، وباريس، وكوبنهاجن، وتمخّض عن ذلك أنظمة وتشريعات واتفاقيات دولية مثل اتفاقية كيتو، التي قررت حصة من ثاني أكسيد الكربون لكل دولة، ويمكن لدولة معينة أن تبيع حصتها «من حق التلويث!» لدولة أخرى حسب العقلية الرأسمالية المخرّبة. وتتفرع عنها مواصفات عالمية، مثل «بصمة الكربون». وتفيد بعض الإحصائيات أنها تحظى بتأييد 97% من علماء العالم(3).
وفي المقابل، ثمة معارضون لوجود المشكلة ويعدونها تزويرًا علميًّا خدمة لأجندات سياسية، منهم علماء ومؤرخون غربيون مرموقون. ولسنا هنا بصدد استعراض كل الآراء، ولكن نكتفي بالإشارة إلى موقف المؤرخ الشهير وبستر تاربلي (Tarpley)، الذي يرى القضية خدعة واحتيالًا، وأن ثمنها باهظ على البشرية، وأنها تعيق التنمية في أفريقيا وفي جنوب شرق آسيا، بل تعيق الانتعاش الاقتصادي في العالم كله(4).
ونُشير أيضا إلى معارضة عالم الفيزياء إيفار جيفيير (Giaever) لمسألة الاحتباس الحراري، وهو الحاصل على جائزة نوبل لعام 1973، وقد قدّم محاضرة علمية قيّمة في الموضوع عام 2016، حسب تسجيل يوتيوب(5)، أى فيها الاحتباس الحراري دينًا جديدًا لا يُسمح بتكذيبه، وانتقد سلوك الجمعية الفيزيائية الأمريكية التي رأت أن أدلة القضية ليست محل نقاش، مشبّهًا سلوكها بسلوك الكنيسة «ومن ثم استقال من عضويتها». وهذا الوصف يجدد التأكيد على ما قلنا في مقال سابق من أن العلم يفرض هيبة في نفوس البشر كما الأديان!
وانتقد جيفيير انحياز مجلة نيتشر الشهيرة مع القضية، وتساءل مستنكرا: «ما درجة الحرارة الفضلى للأرض؟» وخلص إلى أن الموضوع سياسي، ودعا إلى التوقف عن صرف الموازنات البحثية الضخمة على مشكلة الاحتباس الحراري.
وثمة العديد من النقاط التي يبطل فيها العلماء الرافضون مسألة الاحتباس الحراري، منها أن مبدأ حساب متوسط درجة حرارة الأرض محل جدل، مثلًا منها أسلوب الحصول على البيانات ونقط قياسها على الأرض وتوفرها تاريخيًّا، بل هنالك مؤشرات عالمية تبين ثبات درجة حرارة اليابسة على خلاف طرح نظرية الاحتباس، وتبين أن الزيادة تبرز فقط عند احتساب درجة حرارة المحيطات مع اليابسة «مما يعده المنتقدون» مدخلًا لتلاعب ناسا بالمؤشرات! وسؤال التفكير الناقد هنا: كيف يمكن أن تحسب متوسط درجة حرارة الأرض وهل ثمة نقاط كافية وموزعة لذلك؟
إضافة لذلك، فإن الزيادة في نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون في السنوات الأخيرة، لم تتوافق مع الزيادة في درجة حرارة الأرض، بما يبطل حتمية الارتباط بين العاملين. والأهم من ذلك، أن الغاز يدخل في عملية التمثيل الضوئي طبيعيًّا، ويؤدي إلى زيادة الإنتاجية الزراعية، وهو يستخدم تقنيًّا في الدفيئة الزراعية لذلك الغرض. وقد استغبى جيفيير القرارَ الأمريكيَ الذي فرض أن يحتوي الوقود على 10% من الإيثانون المستخلص من الذُرَة؛ لأن الذرة غذاء، وقد أدى ذلك القرار إلى ارتفاع سعر الغذاء في العالم.
ولا سببية مبررة للربط بين الاحتباس الحراري والتغير المناخي، إذ إن المناخ قد تغير عبر التاريخ، ثم إننا نصدّق بخبر الوحي حول تغير المناخ في جزيرة العرب، ولا نعد ذلك مشكلة ونقمة بل خير ونعمة. أما عن ارتفاع مستوى البحر فليس ثمة ما هو غير عادي في الموضوع، إذ إن ثمة دلائل تشير إلى أنه ارتفع بمعدل 20 سنتيمترًا لكل قرن خلال القرون الثلاثة الأخيرة قبل تصاعد النشاط الصناعي.
ولم يقف الأمر عند ذلك الحد من الإنكار، بل برزت في المنشورات العلمية نظرية مناقضة للاحتباس الحراري، وهي البرود الكوني (Global Cooling)(6)، كما كتب العالم في وكالة الفضاء الأمريكية ناسا كيسي (Casey)، الذي شغل منصب المستشار القومي لسياسة الفضاء(7)، وقد وافقه علماء آخرون من ناسا وغيرها.
وللموضوعية، يمكن لمن يريد أن يشكك بغاية العالم جيفيير – وغيره- من رفض قضية الاحتباس الحراري أن يرى أنه يحسّن صورة شركات النفط. ولكن ذلك لا يبطل الأدلة والمؤشرات العلمية التي عرضها جيفيير. ولا يبرر قمع الرافضين للاحتباس الحراري، كما تنقل بعض الأخبار(8).
على المستوى العربي، هناك جدل سياسي: فمثلًا كتب رئيس مركز اقتصاديات البترول في السعودية، حول (فضيحة المناخ)، وعن المعلومات التي سرقت أو تسربت من علماء من مركز CRU الذي يحتفظ بالمعلومات المتبادلة بين علماء لجنة المناخ، وأن ثمة 28 سيناتور أمريكيًّا (جمهوريين)، مع مسؤولين سعوديين قد تقدموا بطلبات لإجراء تحقيق مع كبار علماء المناخ حول تلاعب العلماء في المعلومات لإثبات أن التغير في المناخ من صنع البشر. ونقل عن باتشوري رئيس الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ تعليقه على الحادثة بالقول: (لن تجرى أي تحقيقات إضافية لأن سمعتنا كعلماء ليست عرضة للتشكيك أو موضعًا للتساؤل)(9). ورأى البروفيسور علي عشقي أن ارتفاع درجة الحرارة ما هو إلا نتيجة لدورات طبيعية، وليس للأنشطة الإنسانية أي سبب في ذلك(10).
إذن، نحن من جديد أمام روايات علمية متناقضة لقضية سياسية وتخضع لجدل علمي حاد، وثمة علماء مرموقون يعترضون على التزوير العلمي في تصوير تلك المشكلة ودوافعها السياسية، ونلاحظ سلوكًا غريبًا لمؤسسات علمية شهيرة في كبح جماح التفكير الناقد لاختبار الأدلة وفحصها وعدها ليست محل نقاش، مما يعني احتمال أن نكتشف يومًا أن الاحتباس الحراري هو من الخزعبلات العلمية، وأن «ناسا» تكذب فعلًا في مسألة علمية، وأن المؤامرة أمر وارد. أضف إلى ذلك أن المسألة تتعلق ببشرى سماوية حول التغير المناخي، ولكن المقدّسين للعلم يستبعدون التفكير الناقد، ويسلمون عقولهم للهيمنة العلمية العالمية.
وهنا نجدد السؤال: لماذا لا تكون الإجابات العلمية حول الأطروحات الكونية مدفوعة بغايات سياسية وحضارية، مثل قضية الاحتباس الحراري؟.
بقلم/ ماهر الجعبري