منذ زمن غادرت الحركة الوطنية الفلسطينية فضيلة المراجعة النقدية التي كانت تقع مع نهاية كل عام، وبداية آخر، أو في المواعيد السنوية للاحتفال بالانطلاقات.
كانت هذه القيمة في أجواء ديمقراطية حقيقية ستشكل مناسبة للفصائل كلها التي يعتقد كل منها أنه صاحب البرنامج والفكرة الأفضل، والأقدر من سواه على تحقيق هدف التحرير، كانت تلك القيمة ستساهم أولاً بأول باستدراك الأخطاء، والعثرات، نحو تصحيح المسيرة، غير أن هذه القيمة استبدلت كل لإلقاء المسؤولية عن العثرات إلى فصيل أو فصائل أخرى.
كفلسطينيين نحن منشغلون أكثر من اللازم، بأزماتنا ومشكلاتنا وتناقضاتنا الداخلية، هذا على الأقل بالقياس إلى ضخامة المخاطر التي تتعرض لها القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني.
لا يمكن تجاهل موضوعية التعارضات والاختلافات في صفوف الشعب، ولا يمكن، أيضاً، تجاهل أهمية التنوع لإثراء الحركة التحررية الكفاحية، شرط توفر القيادة التاريخية القادرة على الاستفادة من هذا التنوع، وتحويله إلى قيمة تحشيدية إيجابية ولكن بالمقابل لا يمكن قبول، تقدم التناقضات الداخلية في بعض المراحل على التناقض الرئيس مع الاحتلال.
فعلى سبيل المثال وليس الحصر، يعترف الكلّ الفلسطيني بأن وقوع واستمرار الانقسام، يشكل خدمة جليلة ومجانية للاحتلال، غير أن السلوك العام، يتناقض مع هذا الاعتراف.
لقد انقضت اثنتا عشرة سنة والكل منشغل في تقاذف المسؤولية عن وقوع واستمرار الانقسام، حتى لم يعد مواطن فلسطيني واحد، لا يعرف الحقيقة، إلى أن أصبح الحديث في هذا الأمر مجرد هراء لا قيمة له، طالما أنه لا يؤدي إلى فعل جماعي مغاير.
لا أجد ضرورة لمراجعة وقائع العام الماضي بالنسبة للأوضاع الفلسطينية وما يتصل أو يتواصل معها في المحيطين العربي والإقليمي، وحتى الدولي، فالصورة أكثر من واضحة، ولا تقبل أي محاولة لتزيين القبح البائن.
لكن الصورة العامة ستتبدل، حين نقارن بين الوضع الفلسطيني وأوضاع دولة الاحتلال، بما أن الطرفين يشكلان قطبين لظاهرة واحدة هي ظاهرة الصراع الفلسطيني في الإطار العربي، والإسرائيلي.
لا شك أن ثمة شعوراً بنشوة الانتصار، يجتاح النخبة الإسرائيلية الحاكمة وحتى المعارضة، ذلك أن إسرائيل تجد نفسها في أفضل حال في ظل الوضع الفلسطيني والعربي والإقليمي، وهي تشعر بأنها في أفضل مراحل حياتها في ظل إدارة أميركية شعبوية، تشعر بالتقصير كلما قدمت للاحتلال المزيد من الدعم، بكل أشكاله.
نعم ترامب هو أفضل رئيس للولايات المتحدة بالنسبة لإسرائيل منذ قيامها، هكذا تبدو الصورة الآن ولكن ما لا تدركه النخبة السياسية في دولة الاحتلال هو أن هذا الدعم اللامحدود، سيرتد عليها ضعفاً وهواناً في مرحلة أخرى.
السياسة الأميركية، تقدم أقصى الدعم والتشجيع لسياسة اليمين الإسرائيلي المتطرف، الذي يندفع بسرعة قصوى نحو الانهيار في درك العنصرية، ما حذرت منه تسيفي ليفني حين اتهمت نتنياهو بأنه يلقي بإسرائيل في جهنم.
على المستوى الدولي، تحظى القضية الفلسطينية بمزيد من التضامن والدعم، والتفهم من قبل المجتمعات الأجنبية، ينعكس ذلك في عدد ونوع القرارات التي تصدر تباعاً من الأمم المتحدة ومؤسساتها.
كما يتجسّد ذلك، في نوع وحجم التضامن الذي تحظى به القضية الفلسطينية وأهلها، من قبل منظمات المجتمع الدولي، والفاعلين الدوليين ما تحقق من خلاله حملة المقاطعة (B.D.S)، المزيد من الإنجازات حتى في الدول الداعمة لإسرائيل وأمنها.
وحين حاولت الولايات المتحدة، أن تغير الصورة من خلال مشروع قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة، يستهدف تجريم المقاومة ووصفها بالإرهاب، فشلت أيّما فشل في تحقيق ذلك.
الولايات المتحدة، الدولة الأعظم حتى الآن، صاحبة الأيادي الأطول عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، وأمنياً ومالياً، تستخدم وتوظف كل إمكانياتها في الضغط والابتزاز، لكنها تفشل، وتفشل معها دولة الاحتلال في أن تحجم عملية انعزالها.
على ضعفهم، وتشرذمهم، وانقساماتهم، ينجح العرب والفلسطينيون في مواجهة وإفشال محاولات الولايات المتحدة اختراق الطوق الذي، يلتف حول إسرائيل، ويشدد من عزلتها.
لقد مضى أكثر من عام على قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ولاحقاً نقل سفارة بلاده إليها، ولكن كم دولة استجابت أو يمكن أن تستجيب لذلك القرار، أم أنها لا تزيد على عدد أصابع اليد الواحدة، ومن غير المحتمل أن تزيد على ذلك؟
لعلّ السبب في ذلك لا يعود بالضبط وفقط إلى شطارة وحنكة السياسة والدبلوماسية الفلسطينية، وقدرة الفلسطينيين على إظهار مظلوميتهم.
يعود السبب الأساسي في ذلك، إلى طبيعة الكيان الاحتلالي الإسرائيلي، الذي يفتخر في زمن يقبح العنصرية والفاشية، بأنها دولة اليهود فقط أي دولة عنصرية بامتياز وتتجلّى فيها كل أشكال العنصرية وعدم الاعتراف بالآخر.
صحيح أن حق الفلسطينيين يحظى بقوة القرارات الدولية، ولكن هذا الحق تنقصه القوة التي تنجح في فرضه سواء تعلق الأمر بالفلسطينيين، أو بالمجتمع الدولي الذي يفترض أنه مسؤول عن صيانة وتطبيق الحقوق التي يقرها.
في هذا الزمان لا تضاهي قوة الحق والمنطق، منطق وحق القوة الذي تتباهى إسرائيل بحيازته لولا أن العنصرية تنخرها من الداخل وكما القلاع فإنها في الأغلب تنهار من داخلها فإن إسرائيل ستنهار من الداخل.
هذا العام يوصف على أنه عام كثافة القرارات والقوانين العنصرية في إسرائيل، والعنصرية التي تجد تعبيراتها العملية.
في كل ما تقوم به أجهزتها العسكرية والأمنية والاقتصادية، وفي كل ما يقوم به المستوطنون وغلاة المتطرفين، لكأن إسرائيل تتكفّل بإعلان ولادة الدولة العنصرية في زمن يرفضها.
وفق هذه المقاربة السريعة، فإن حال إسرائيل ومستقبلها أسوأ بكثير من حال الفلسطينيين ومستقبلهم.
إنني هنا لا أفتعل فكرة، لأن الكاتب يتحمّل مسؤولية شق الطريق إلى الأمل، وإنما أحاول التفكير متجرداً من أوجاع اللحظة التي يعاني منها الفلسطيني.
بقلم/ طلال عوكل