تظهر دراسة جديدة، أعدها بيت الصحافة، الكثير من عيوب الواقع الإعلامي والصحافي في قطاع غزة، الذي يعاني من جملة كبيرة من الأزمات، وتقف في طريق تطوره جملة أكبر من التحديات والمعيقات. وكل هذا يتطلب وقفة جادة تجاه تصويب الأمر؛ للنهوض بهذا الواقع والدفع لصالح إعلام مهني وحقيقي قادر على المساهمة الإيجابية في حياة الناس وتحسينها. وواقع الصحافة في قطاع غزة واقع صعب ومتغير، كما تقول الدراسة، ويشكل الاحتلال، بما يفرضه من قيود على حركة الأفراد والمعدات، وبما يمارسه من استهداف للصحافيين والعاملين في الإعلام والانقسام وتبعاته المريرة على المؤسسات الصحافية وهبوطه وتغلغله داخل جسد المؤسسات الإعلامية والصحافية، العبء الأكبر في طريق تحقيق هذا الهدف. أكبر تلك التحديات تحديان مركزيان تتفرع عنها تحديات كثيرة وجمة. وربما من جملة هذه التحديات ما يفرضه ظهور الإعلام الجديد وأدواته المتغيرة والمتبدلة قي كل لحظة. هذا بدوره أوجد حاجات جديدة في الممارسة، وقبل ذلك في التثقيف والإعداد، وبدوره فرض تحديات أخرى على كليات الإعلام والعاملين فيها. الإعلام الجديد لغة جديدة تنسف الكثير من أبجديات العمل السابق، وتظهر وتسلط الضوء على عاملين جديدين في حقل الإعلام وفنيين مختلفين، وتعيد التركيز على الفرد والمواطن ودوره في صناعة الخبر والتقرير. أمام كل ذلك فإن الكثير من القيود الكلاسيكية على عمل الصحافي تخف وتصبح ليست ذات قيمة ولا أثر، خاصة مع تحرير الوسيلة الإعلامية من قيود وحاجات المكان.
تشير الدراسة إلى واقع إعلامي مشتت وممزق، يمكن أن نطلق عليه «فوضى» الإعلام في قطاع غزة. هذه الفوضى التي لم تكن إلا نتيجة غياب الخطط الوطنية الموحدة الهادفة إلى تطوير الواقع الإعلامي والنهوض بواقع العاملين فيه. الدراسة لا تشير إلى تلك الفوضى وإن كانت تصفها، لكن المؤكد أن المعطيات التي تنشر في الدراسة لا بد أن تقرع ناقوس الخطر حول هذا الواقع الملتبس، والذي على الصحافي والعامل فيه أن يعاني من جهات عدة، سواء من سلطات الاحتلال واستهدافها للحقيقة عبر استهداف الصحافيين، كما يحدث من استهداف لهم على طول الحدود خلال تغطية مسيرات العودة، أو من خلال تقييد حركتهم وتنقلهم ومنع دخول معدات السلامة اللازمة لعملهم، أو مما يعانيه الصحافي من أثر الانقسام على مهنيته. ثمة طغيان للاصطفاف الحزبي في الكثير من الأحيان، وهناك هيمنة واضحة للمؤسسات الإعلامية الحزبية عند مراجعة المشهد بشكل كبير. ويمكن تسجيل أن الكثير من المؤسسات غير المرتبطة حزبياً تربطها علاقات حزبية كبيرة من تحت الطاولة، وتخدم أجندات حزبية واضحة. ودون أن يكون هذا رأي الدراسة، فإن المؤكد أن الكثير من المؤسسات العاملة في الإعلام - «إلا من رحم ربي» - بغزة هي مؤسسات إعلامية حزبية تحت يافطات مختلفة يتستر خلفها أصحابها. بهذا المعني فإن الانقسام أدمى العمل الإعلامي وأوجد بثوراً غائرة في جسده الهش قانونياً أصلاً.
تخيلوا في غزة لدينا 49 برنامجاً إعلامياً في الجامعات. قبل الانقسام كان هناك تسعة برامج فقط، بمعني أنه خلال إحدى عشرة سنة زاد تعداد تلك البرامج على أربعين برنامجاً، وهو ما يعني قرابة 4 برامج سنوياً. صحيح أن الوضع في غزة ساخن وغزة مخبز للأخبار ومصدرة لها بشكل كبير، لكن السؤال المنطقي: هل هناك طاقة استيعابية لاحتواء وتشغيل كل هذا الكم من الخريجين. السؤال برسم الإجابة، والإجابة يدركها الجميع. يرتبط بهذا سؤال أيضاً بحاجة لتوضيح: هل هناك ثمة استسهال لمثل هذه البرامج؟ من بين هذه البرامج 18 برنامجاً غير معتمدة من قبل الوزارة في الضفة الغربية، ما يعاني تفاقم معاناة خريجي هذه البرامج. ويرتبط بهذا ظاهرة أخرى تتمثل في البطالة العالية بين خريجي كليات الإعلام. جزء وسبب من ذلك هو الانقسام، ولكن الجزء الأكثر هو عدم حاجة السوق لهم. هذه هي الفوضى بعينها التي يتوجب على مخطط السياسات الوطنية أن يتوقف عندها بجدية. فحين يكون لديك 49 برنامجاً للإعلام في مجتمع تعداد سكانه يبلغ المليونين، فإن هذا يعني أن هناك برنامجاً لكل 20 ألف مواطن. أي نسبة تلك؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكم طالب إعلام لكل مجموعة من المواطنين؟ السوق لا تستوعب سنوياً أكثر من 20 فرصة جديدة مع تناقص الاهتمام الخارجي والدولي، وهو اهتمام موسمي بالمناسبة.. فقط في أزمان الحروب.
السؤال الأخطر لا بد أن يلامس جودة ما يتم تقديمه من برامج. ولكن قبل ذلك يجب السؤال حول الرقابة على هذه البرامج، أم أن الأمر مجرد منح ترخيص أو ترك الأمور عائمة. تشير الدراسة إلى أن 85 بالمائة من البرامج مشتركة مع برامج أخرى، وهي رافعة تسويقية لتسويق بعض التخصصات الأخرى. ويشير 37.5 بالمائة من المستطلعة أراؤهم، وهم خريجو مؤسسات إعلامية، إلى غياب الأهداف التعليمية والمعايير الأكاديمية للتخصصات المشار إليها. فيما يوافق أكثر من النصف (51.8 بالمائة) على أن طرق التعليم ووسائله غير محدّثة. وكما تخلص الدراسة، فإن المنهاج يفتقر إلى التحديث والتطوير، بل إن 35.7 بالمائة من المستطلعة أراؤهم لا يعتبرون أعضاء هيئات التدريس أصحاب اختصاص وكفاءة.
والدراسة التي تحمل الكثير من الأرقام والبيانات، وتقدم جملة ثرية من المقترحات تجاه تصويب الواقع الإعلامي، تشكل مرجعاً مهماً لواضع السياسات الوطنية، خاصة في وزارة التعليم العالي التي يقع عليها إطلاق حملة لإعادة تنظيم تعليم الإعلام والصحافة في الجامعات، حتى يصار إلى خلق إعلام وطني مهني بالحدود الدنيا الممكنة. كما يجب التأكيد على الدور الإيجابي الذي يمكن للإعلام أن يقوم به في ظل حالة الانقسام، وتحويل دوره من سلبي إلى إيجابي في تعزيز القيم الوحدوية. بقي أن نذكر أن طموح الدراسة إلى تغطية جميع جوانب الواقع والصحافي والإعلامي أفقدها في بعض الحالات بعض التركيز والدقة دون أن يمس هذا بقيمتها وجودتها.
بقلم/ عاطف أبو سيف