كذب العالم علينا حين أقنعنا بأن أوسلو ستأتي لنا بسنغافورة، وصدقناه حين بشرنا بأن معاناتنا ستصبح نسياً منسياً، وتهللت وجوهنا فرحاً حين قالوا لنا بأن علينا أن نعتاد ضجيج الطائرات التجارية وهي تحط على أرضنا لتنقل الورود من مزارعنا إلى فنادق الخمسة نجوم التي نسمع عنها، وشمرنا عن سواعدنا استعداداً لموسم حصاد الصابرين، وشرعنا في تحديد ملامح الدولة الحلم المختلفة عن شقيقاتها، دولة يتفتق وجهها حمرة خجلاً من الشهداء، دولة ممشوقة القوام بقانون لا إعوجاج فيه يحترمه الكبير قبل الصغير، دولة يزين ثغرها اللؤلؤ والمرجان من بحر احتفظ بكنوزه ليوم الحرية الآت، دولة تقيم المحبة في أزقتها لا يعكر صفوها رأي هنا وإجتهاد هناك، دولة تسهر على راحتها الدول المانحة وما تجود به من القناطير المقنطرة من الدولار والذهب الأسود.
لم تقترب سنغافورة منا ولم يغادرنا بطش الاحتلال، واكتشفنا لاحقاً أننا لسنا الاستثناء وأن دمنا لم يكن خطاً أحمراً لا يجوز الاقتراب منه، فتغولنا على بعضنا بإسم الدين تارة وبإسم الوطنية تارة أخرى، وخون كل منا الآخر وكفره ولعن سلالته منذ النكبة وحتى يومنا هذا، ومارسنا العنصرية الفصائلية بكل موبقاتها، تقدم ولاؤنا الحزبي على انتمائنا الوطني، وتشدق كل منا بإنجازاته الثانوية وغفل عن اخفاقاته الجوهرية، وكأن ضجيج المحتل وهو ينهب مقدراتنا أضعف من أن يوقظنا من سباتنا العميق، صرخ كل منا بطريقته لن تمر صفقة القرن ما دام فينا عرق ينبض، وأبقينا بوابة الانقسام مفتوحة على مصراعيها كي تدخل منها.
لم تعد أحلام سنغافورة تراودنا بقدر ما بات واقع رواندا يلهمنا، تلك الدولة التي لم تزرع بعد استقلالها عن بلجيكا سوى الكراهية، وتوطنت فيها العنصرية العرقية بين قبيلتي الهوتو "صاحبة الأغلبية 80% من السكان" وقبيلة التوتسي "صاحبة الأقلية 20% من السكان"، الاختلاف الديني لمواطنيها بين الكاثوليك والبروتوستانت والاقلية من المسلمين ومن لا دين لهم لم يشعل نار الاقتتال بينهم ولم تفعل ذلك لغتهم المنقسمة بين الانجليزية والفرنسية والمحلية، العنصرية القبلية هي من أحكمت قبضتها على عنق الوطن وفجرت بركان الكراهية مطلع التسعينات، حين مارست قبيلة الهوتو اقتلاعاً عرقياً لقبيلة التوتسي عبر جرائم ابادة امتدت على مدار مائة يوم بالتمام والكمال، لم يحرك العالم ساكناً أزاء أبشع وأقذر تطهير عرقي شهده التاريخ الحديث راح ضحيته ما يقرب من 800 ألف من قبيلة التوتسي "نصف القبيلة او ما يزيد قليلاً"، توقف العالم عن نقل أخبار مذابحهم كي لا تكتئب شعوبهم من حجم الهمجية التي وصل اليها الانسان.
كأن هول كارثة القتل أيقظت شعب راوندا من سكرته، أفاقوا على حقيقة أن لا أحد بإستطاعته أن ينفي الآخر وأن الأغلبية بحاجة إلى الأقلية، وأيقنوا أن لا أحد في هذا العالم بإستطاعته إنتشالهم من مستنقع الكراهية العرقية التي تعشعش في فكرهم وسلوكهم سوى أنفسهم، سنوا قانون تجريم العنصرية القبلية وأسسوا لشراكة حقيقية تكون مصلحة بلادهم بوصلتهم، وعملوا تحت شعار هيا بنا سوياً لنحقق هدفنا المشترك "أومجاندا"، حيث يتطوع سكان العاصمة قاطبة لتنظيف شوارع المدينة في آخر سبت من كل شهر، هكذا تحولت عاصمة رواندا "كيجالي" من ميدنة غرقت بدماء ابنائها إلى المدينة الأكثر نظافة في أفريقيا، وتحولت راوندا الدولة التي سكنها الفقر والبطالة والهمجية إلى الدولة صاحبة المعدل الأعلى في النمو الإقتصادي في القارة السمراء، وزاد انتاجها من البن من 15 الف طن سنوياً إلى 30 مليون طن في غضون خمسة أعوام، وباتت وجهة للسياحة رغم أن مقوماتها السياحية لا تتعدى حيوان الغوريلا.
يجب ألا نخجل من أنفسنا حين نتخذ من رواندا "بلد الألف تل" أسوة حسنة، وأن نبدأ بسن قانون يجرم العنصرية الفصائلية كي يتوقف هذا السيل من التشهير والتخوين والتكفير فيما بيننا، ماذا لو كان لدينا قانوناً يعاقب بموجبه من يتطاول على فصيل ما تصريحاً أو تلميحاً بأن يعمل بلا أجر في تنظيف شوارعنا وأزقتنا، ألسنا بحاجة إلى هذا القانون أكثر من حاجتنا لقانون قدح المقامات العليا؟، ألا يمكن لنا أن نؤسس شراكة نجند فيها كل طاقات شعبنا بلا استثناء كي نتمكن من النهوض بواقعنا المؤلم؟، أليس بمقدورنا على الأقل أن نخرج أقدام شعبنا من وحل الانقسام ونطوي صفحته التي لم تجلب لنا سوى الضعف والوهن والفقر؟، يا سادة .. الوطن ليس بخير فهل أنتم بخير؟.
بقلم/ د. أسامه الفرا