يدخل اليوم الاحد الموافق 6-1-2019 الأسير الفلسطيني ابن قرية عارة في الداخل الفلسطيني كريم يونس عامه ال38 في سجون الاحتلال الاسرائيلي، وهو اقدم اسير يقضي اطول فترة زمنية خلف القضبان، وخلال هذا الوقت الطويل تغيرت الاحوال والاتجاهات والسياسات، جاء قادة وذهب آخرون، تغيرت الامكنة والاسماء واللغات والعقول، لكن السجن لم يتغير كعلاقة بشعة على بقاء اطول احتلال في التاريخ المعاصر، البرش هو البرش، الاصفاد هي الاصفاد، القضبان وصراخ التعذيب، الاسلاك والنوافذ الموصدة، رائحة الهواء الرطب، السماء البعيدة والذكريات البعيدة.
ذاكرة كريم يونس احتشدت بالشهداء الأسرى، بالداخلين الى السجن وبالخارجين، السجان هو السجان، الوجع اليومي والحنين، الصور الاولى، الطيور وقطرة الحليب وبئر الماء، المدن والقرى والبساتين والظلال، والدته العجوز المقعدة وصوت حبات المسبحة بين اصابعها وهي تعد الايام والسنين وتزفر طويلاً طويلاً بالدعاء.
ثمانية وثلاثون عاماً مرت، صدئ الحديد وتعفن الجدار ويئس الجلاد، جربت حكومة اسرائيل كل قوانين البطش والخنق والقمع ووسائل شطب الهوية النضالية للأنسان الاسير، في كل مرة يظهر وجه كريم يونس العنيد، يحمل عتاده الانساني وذخيرته النضالية والأخلاقية، يحمل آلامه وارادته ليهزم الليل والغياب، يرى ما لا يرون، يرى شمساً في السجن وخلف الظلمات.
ثمانية وثلاثون عاماً مرت على جسد مخلوق من كبرياء وشموخ، وبرغم مرور مائة عام على وعد بلفور المشؤوم، ومائة عام على النكبة، وخمسون عاماً على الاحتلال الاسرائيلي، وخمسة وعشرون عاماً على اتفاقيات اوسلو، وبرغم التضخم العسكري والاستيطاني الاسرائيلي وبناء السجون، فان دولة اسرائيل لاتزال تسمع من يدق على الجدران وابواب الحديد، ولاتزال مشغولة بالحراسات والتشديدات الامنية الى درجة الجنون، لم تتوقف الدقات والانفاس، هناك من يمر من الف باب وباب، هناك من يشعل الجوع في الاضراب، هناك من يحرر السجن من داخله، ويبقى السجان مقيداً في الزمان والمكان.
كم حرباً تحتاج دولة اسرائيل لتنتصر على كريم يونس؟ كم شهيداً ستقتل؟ كم اسيراً ستعتقل؟ كم بيتاً ستهدم؟ كم جريحاً ومبعداُ وسجناً ومستوطنة؟لم يختف كريم يونس من الوقت، اكثر من 15 فرداً من ابناء اخواته واخوته ولدوا خلال 38 عاماً، وكبرت العائلة، فاختنق الاسرائيليون في الديموغرافيا واسرار النطف المهربة.
حكم على كريم يونس وزميله ماهر يونس عام 1983 بالاعدام شنقاً وبمصادقة وزير الدفاع الاسرائيلي موشي ارنس،ورئيس هيئة الاركان رفائيل ايتان، ألبسوهما بدلة الاعدام الحمراء لمدة 275 يوماً، حبل المشنقة يتدلى في سجن نيسان بالرملة حيث كانا يقبعان، الحبل يشد على الرقبة، الحبل يتحرك ببطء مع عقارب الساعة، الموت يرقص في تلك الزنزانة الخاصة المعزولة التي حشرا فيها، الموت يذهب ويجيء، يسهر الموت فوق الكتفين وقدام الباب وعلى العتبة.
275 يوماً في بدلة الاعدام، كريم يونس مربوط بالجنازير من يديه وقدميه، على مدخل الزنزانة تواجد 12 شرطياً وضابطاَ ينتظرون قدوم الموت ليحتفلوا ويستمتعوا بالجريمة، حالة طوارئ واستنفار غير مسبوقة في تل ابيب، الحراسة مشددة، لن يهرب الموت او يخطئ، الموت جاهز ومستيقظ ولا ينام، الموت واقف كالظل لا يفارق كريم، الموت هو الزائر الوحيد القادم، سيأتي الساعة الخامسة، سيأتي الساعة السابعة،سيأتي ربما الآن، ربما ظهراً ،ربما في منتصف الليل، الموت يأتي بسرعة لا صوت له سوى الغرغرة، الحراس ماتوا كثيراً وهم ينتظرون قدوم الموت، يتساءلون لماذا تأخر الموت؟ الرجل الذي سيموت يبتسم في وجوهنا كأنه يرى ما بعد الموت حياة.
275 يوماً في بدلة الاعدام، دولة اسرائيل متأهبة لتنفيذ الجريمة، ولكن ما هذا الرجل الذي يفك عن رقبته حبل المشنقة، القدس انتفضت بين يديه، صنوبر الكرمل تحرك بين عينيه، والدته هبت عن كرسيها المتحرك واقفة، فاض البحر المتوسط، أمواجه عالية، دولة اسرائيل بعد 38 عاماً قلقة ومسيجة وخائفة.
ربما سمع الجلادون في تلك الليالي صوت كريم يونس وهواجسه وهو يردد ما جاء في رواية ثورة المشنوقين للكاتب ترافن: اذا كانت حياتي لا تساوي شيئاً، واذا كنت اعيش في السجن أسوأ من حيوان، فلم افقد شيئاً ان تمردت وثرت على ذاك الذي شنقني.
275يوماً في بدلة الاعدام، الانتظار كان هو الموت، من ينتظر اكثر يعيش اكثر، الاسرائيليون لم يستطيعوا الانتظار، بدأوا بتنفيذ الاعدامات الميدانية دون محاكمة في الشوارع وعلى الحواجز والارصفة، وصار الاعدام قانوناً مشرعاً في الكنيست الاسرائيلي، تتدلى حبال المشانق من أروقته في تقديس للموت والقتل والكراهية المقيتة، كلهم يهتفون: الموت للعرب، الموت للاسرى، يحترقون في عنصريتهم ويدعون انهم ضحايا المحرقة.
275يوماًفي بدلةالاعدام، وقد اصبح الاعدام مفتوحاً على النسيان والمجهول باصدار احكام المؤبدات الجائرة على المئات من الاسرى والاسيرات، وانقضت حكومة الاحتلال على حقوق الاسرى بسن تشريعات عدائية وعنصرية وبشكل غير مسبوق، وشكلت ما يسمى لجنة اردان، لتضييق الخناق على الاسرى وتشديد الاجراءات عليهم، وسلبهم لكافة حقوقهم الانسانية والمعيشية، يعتقد الاسرائيليون ان الاعدام يبدأ باعدام الكرامة، وتجريد الاسرى من آدميتهم وانسانيتهم، ويعتقدون انهم قادرون على اخماد نشيد الحرية في السجون: نعم قد نموت ولكننا سنقتلع الموت من ارضنا.
275 يوماً في بدلة الاعدام، صار حبل المشنقة غصن شجرة، ارتداها كريم يونس في عيد الميلاد، خلع البدلة، قفز عن السور، بدأ عاماً آخر، ها هو يقرع الاجراس في الساحة، يعلن اضراب الحرية والكرامة، لن نستسلم فأما النصر او الشهادة.
275 يوماً في بدلة الاعدام، كانوا يرونه قنبلة، وكان يراهم دولة عسكرتارية استبدادية تمارس الجريمة والخطايا المنظمة، كانوا يرونه تهديداً وجودياً على اسطورة ارض الميعاد، وكان يراهم عابرين غزاة فوق دبابة ومذبحة.
275يوماً في بدلة الاعدام، الحبل ينفلت عن رقبة كريم ويشتد على رقبة دولة اسرائيل، دولة الابرتهايد في المنطقة، دولة يقودها التطرف القومي والديني، دولة لم يعد فيها أي مظهر لمجتمع مدني وديمقراطي، دولة تنحدر الى الفاشية وحبل المشنقة.
275 يوماً في بدلة الاعدام، وبتوقيت فلسطين والقدس، دخل كريم يونس عامه الجديد حياً حراً سيداً، في يده اليمنى عكازة أمه العجوز، وفي يده اليسرى عكازة حياته المقبلة.
بقلم/ عيسى قراقع