قبل يومين رحل راسم الملفوح احد أبرز الشخصيات الوطنية في مخيم جباليا بعد سنوات طوال قضاها في العمل الوطني الذي دفع مثل الكثيرين ضريبته من سني عمره خلف قضبان السجون.
راسم من ذلك الجيل الذي نذر نفسه لاستعادة الحلم، الجيل الذي ذبحته النكبة أو بعبارة الراحل احمد دبور "جيل الذبيحة". الجيل الذي ولد وكانت البلاد تذهب والمآسي تتزاحم الحضور أمام أعين الأطفال الذي كان عليهم ان يعيشوا في الخيام يعانون البرد والحر ويستمعون إلى قصص الأمهات عن البلاد التي كانت. عن بيدر القرية ومواسم الحصاد وعن السفن التي تمخر البحر أو الحنطور الذي يجوب المدينة. حكايات شكلت هاجس البحث عن النقيض للواقع الذي يعيشون فيه، إنه الهاجس الذي شكل دافع الالتحاق بالعمل الوطني.
أيضا راسم الملفوح من ذلك الجيل الثوري المثقف المهجوس بالبحث عن الفكرة بقدر سعيه الدؤوب للعمل على تنفيذها. الجيل الطليعي الذي ربط بين ريادية العمل الكفاحي وأعلى من عملية النضال اليومي فيما أيضا كان يناضل من أجل لقمة العيش يوما بيوم في ظل الواقع الجائر وبين البحث المستمر عن الأفكار التي تحمي مسيرة الكفاح. الربط المقابر بين الفعل والعقل، بين التصرف والنشاط وبين الاجتهاد الواعي الداعم والمثبت لهما. بعبارة أخرى فإن هذا الجيل المنذور النكبة والبطولة لم يكن طليعيا فحسب بل كان مجتهدا في تأسيس الوعي ووضع مداميك الفكرة التي كان يراد لها ان تستمر.
ذهب جيل بأكمله. جيل حمل معه الحلم وأمسك بيديه وبقوة وشغف تفاصيل المآسي الغائب والمستقبل المرغوب. جيل دفع بكل ما يملك وربما دون تفكير وعقلانية في سبيل استرداد الماضي، بغية العثور على ما تبقى منه وإعادة إنتاجه من خلال استعادة البلاد. في ذلك الوقت الذي ذهبت فيه البلاد في عتمة ليل النكبة كان يعاد إنتاجها عبر حكايات الأمهات والجدات، وكان الأطفال أمثال راسم في المخيم وهم يعبرون الزمن يبحثون عن متسع لتخزين تلك الحكايات الممزوجة بالدموع والمجبولة بالألم. ولم يكن ثمة حل إلا بالعودة إلى مواطن الحكاية واصل السيرة الغريبة قبل أن تقع. لم يكن الأمر أكثر من مغامرة لكنها مغامرة الحالم الذي ان لم يفعل ما فعلوه سيظل يعيش في حلمه لا يخرج من القعر السحيق الذي أوصلته له الحكاية أو التي وصل بقوة وقعها إليه.
يبدو هذا مسلما ربما لأبناء جيلي الذين عاشوا الفترة الثانية من نشوء المخيم. جيل شهد في طفولته بقايا مرحلة التكوين حين كانت الحياة على الهاوية والتفاصيل تسحب الروح من الجسد، كما شهد تغير المخيم وتبدله وتطوره ربما ماديا. شهد الجدات يجلسن على عتبات الأبواب ومزاريب الماء تدلف في الطرقات، والشيوخ يبكون حلمهم الضائع، كما شهد الأطفال والفتية يتبادلون الحياة ويعيشونها عبر عالمهم الافتراضي. تحولات كبيرة أيضا تشهد على ما مر على القضية من تغيرات أيضا عكست نفسها على المطالب والأهداف والأدوات. رحل الكثيرون من حماة الحكاية. رحلت الجدات ورحلت الأمهات ورحل الشيوخ ومن شهدوا زهو البلاد ورحل رجالات المخيم الكبار الذين جمعوا بين حياة الزهو وقسوة النكبة. رحل جيل كان حضوره الأثير في الحكاية أساسا في وصولها لنا.
أمام كل ذلك ثمة حاجة ماسة لتسجيل كل هذا التاريخ وتوثيقه بشكل يعبر فيه الزمن ويتم من خلاله الحفاظ على الحكاية. الحاجة لأن تخلد الحكاية، لأن تظل موجودة حتى بعد أن يرحل من عاشوها أو أبطالها. فقط عبر هذا التسجيل تظل الحكاية قائمة ليس في الذاكرة بل أيضا في الوعي وتظل حافزا للفعل. يبدو هذا مسلما في السياقات العامة وضمن التفكير الشمولي في كل القضايا لكنه يبدو أكثر إلحاحا أيضا في سياقها الفلسطيني الذي يعتمد أكثر من أي سياق آخر على الحكاية. ففي جزء كبير منه، وربما يحتاج البعض أنه في كله، فإن الصراع صراع حكاية. لأن الصهيونية ومشروعها الكولونيالي قائم على حكاية مختلقة حول وجود لا يراهن عليه إلا في المسرودات المتخيلة. حكاية تم تسويقها عبر الدين والمرويات اللاهوتية التي تصلح لكل شيء متخيل ومواسم استشرافية وتمت عبر كل ذلك سرقة البلاد. في ظل هذا فإن الحفاظ على الحكاية الأصلية بحاجة لتوثيق مستمر. ألم تمت مظاهر الحكاية من تقاليد شعبية وفولكلور وقصص شعبية لمن أعاد صبغ الهوية الوطنية وحافظ على تماسكها. ألم يكن إعادة إنتاج هذا التراث عبر الفعل العظيم الذي قامت به منظمة التحرير ودوائرها المختلفة هو من حمل لجيلي ولأبنائي تفاصيل الحكاية وحافظ على استمراريتها. ان العمل من أجل استمرار ذلك يتطلب جهدا منظما ينطلق من وعي رسمي بضرورته ويسخر الإمكانيات اللازمة له.
فيما كنت أسير في جنازة راسم الملفوح في المخيم كنت افكر في كل ذلك. افكر في هذا التاريخ العريض والمهم وتلك التفاصيل الدقيقة حول مثلا بدايات حركة فتح في غزة بعد احتلال العام ١٩٦٧ الذي كان راسم احد روادها، وكيف يمكن كتابة هذا التاريخ. تاريخ الحركة الوطنية في الأرض المحتلة بحاجة لكتابة وبحاجة لكتابة من أفواه من عاشوه وكانوا أبطاله. وربما يقع هذا ضمن اهتمام مكثف لتأصيل حكاية الكفاح الوطني والحفاظ على الموروث العام للأجيال اللاحقة. برحيل راسم الملفوح رحل جزء كبير من الحكاية. جزء يجب أن يحرضنا فقده البحث عن تسجيل ما تبقى منه.
جامعة بيرزيت أطلقت في الماضي مشروعا للتاريخ الشفوي كذلك فعلت لاحقا كما أتذكر الجامعة الإسلامية في غزة هدف إلى تسجيل حياة القرى المدمرة من حكايات اللاجئين الفلسطينيين من تلك القرى وهو جهد ربما بدأته جانيت ابو لغد في مخيمات لبنان. مع هذا لم يكن ثمة جهد منظم ومتواصل. مثلا مع إنشاء جمعيات أهلية القرى المهجرة وهي ظاهرة نشأت بعد تكوين السلطة ضمن نسق جهوي في أساسه وان كانت نتائجه وطنية ومفيدة بدأت عمليات تأليف واسعة لتسجيل سيرة كل قرية وعائلاتها. وهذا جهد جيد، لكن ما أرمى إليه أننا بحاجة لجهد وطني شامل قبل أن تموت الذاكرة. لذلك يجب تأسيس معهد وطني أو مؤسسة وطنية للتاريخ الشفوي تكون تلك مهمته على إلا تقتصر فقط على القرى والنكبة بل أيضا سير المخيم وسيرة الحركة الوطنية.
بقلم/ عاطف أبو سيف