الهزائم التي تمنى بها الأحزاب اليسارية والاشتراكية الأوروبية، تدفع للتساؤل مرة أخرى عن درجة عمق الأزمة التي تعانيها هذه الأحزاب سياسياً وتنظيمياً، والجفاف الذي أصاب افكارها وعلاقتها مع الناس، بعد أن فقدت توهجها ونفوذها في عصرها الذهبي خلال الستينيات حنى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وتستوجب التوقف أمام أوضاع اليسار بصورة عامة في عصر تصاعد القوى اليمينية واتساع رقعة الأفكار العنصرية المتطرفة في أوروبا.
في عصر غاب عن المشهد الشخصيات اليسارية التي تمتع بالحضور والمهارة والبلاغة، والمقدرة على خوض المعارك السياسية. بل أن بعض قادة اليسار الأوروبي أصبح يتبنى بعض الأفكار والمواقف اليمينية التي كان يحاربها في الأمس القريب. في وقت تفرض فيه الأحزاب والجماعات اليمينية هيمنتها على المشهد السياسي والانتخابي في مختلف بقاع القارة الأوروبية، ويسعون لترويض الناخب بواسطة القوة الناعمة وإحضاره إلى صناديق الاقتراع.
أدرك هذا اليمين الأوروبي مبكراً طبيعة التحولات والتغيرات التي تحصل في المجتمعات، وأن سمة العصر هي الاستهلاك والفردية واندثار القيم التضامنية بين البشر، عصر الثورة الرقمية والتطور الهائل في وسائل الاتصال، والشركات العملاقة، والمؤسسات الإعلامية المرعبة. مجتمع فيه كل واحد يسعى للحفاظ على مصالحه الخاصة.
أمام جميع هذه التحولات السريعة والكبيرة وشديدة التأثير والمتواصلة، فقدت ليس فقط الأحزاب اليسارية والاشتراكية الأوروبية البوصلة، بل يشمل هذا التحليل اليسار العربي وأحزابه وجماعاته، الذين يلهثون خلف تسارع الأحداث، بحثاً عن الحقائق في السراب والأوهام التي تسببها الأيديولوجيا والأفكار التي لم تتجدد، والمفاهيم والمعايير التي لا تصلح للعصر الحالي، وحالهم كحال المستجير من الرمضاء بالنار، وهو ما يعلل هزائمهم المتكررة.
الأسئلة الحرجة
يسعى هذا المقال إلى طرح الأسئلة النظرية حول مفاهيم اليسار العربي والأوروبي، وعلاقته بالحرية، وكيف يكون المرء يسارياً في الزمن المعاصر؟ وهل هناك يسار تحرري ويسار ستاليني جائر؟ ما هي علاقة اليسار بالحرية؟ هل يستطيع اليسار في الوقت الراهن تغيير الواقع، وتقديم أجوبة على أسئلة الجماهير؟
لا أدعي امتلاك الحقيقة، لكنني أتمنى أن أساهم في فتح النوافذ المغلقة، في محاولة تلمس صياغة الأسئلة الحرجة المركبة، وهي مهمة صعبة وشاقة. قد لا يتفق معي بعض اليساريين، لكن رهاني أن يجدوا ما يدفعهم للقراءة والتفكير والنقد والتفاعل والحوار، وهذا غاية ما أسعى إليه هنا.
عوضاً عن إجراء المقاربات والمراجعات الفكرية والسياسية الحقيقية لتجربتهم الشيوعية ودورهم وواقعهم الراهن، ينبري غالبية اليساريين العرب للرد المتشنج غير الموضوعي، على أي نقد لهم ويكيلون الاتهامات المرتبطة بالانحرافات الفكرية والتروتسكية، ومحاباة الرأسمالية الغربية.
ليست لدى هؤلاء رغبة في التوقف ورؤية ما يجري في الكون من تحولات غيرت الكثير في ملامح هذا العالم على كافة المستويات. كل ما يفعلونه هو خطاب تبريري قاصر عن ملاحظة أن لا أحد سواهم ما زال يطالب بتحقيق الاشتراكية بمفهومها الماركسي، ولا أحد غيرهم يرغب في القضاء على الامبريالية المتوحشة عبر إقامة "ديكتاتورية البروليتاريا" التي لم تعد موجودة غير في الكتب الحمراء.
الامتحان الشاق
طويت صفحة الحرب العالمية الثانية العام 1945 بانتصار الولايات المتحدة الأمريكية التي بسطت نفوذها على دول غرب أوروبا، فيما روسيا الستالينية سيطرت على أوروبا الشرقية. وانتصرت الثورة الصينية العام 1949، وتبلورت القوى اليسارية في أوروبا الغربية وانتعشت بفعل إسهامها في مقاومة النازية والفاشية، وتأثرت بهذه التطورات حركات التحرر الوطني في الدول النامية، التي تحالفت فيما بعد مع الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي لتحقيق استقلالها السياسي.
استمرت التجربة الماركسية بوجود الاتحاد السوفيتي ومنظومة المعسكر الشرقي الذي ضم دول شرق أوروبا لغاية العام 1991، ثم جاءت مرحلة الانهيار السريع والتفكك إلى دويلات انفصلت عن الاتحاد، وبذلك انتهت مرحلة الحرب الباردة مع الولايات المتحدة والغرب.
إن كانت مادية ماركس التاريخية تقوم على صراع النقيضين الذي يؤسس لتقدم التاريخ، هي مادية صحيحة، فإن نهاية الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية، وانتصار الديمقراطية الليبرالية وهزيمة المشروع الماركسي، يعني أننا في مرحلة نهاية التاريخ، ونهاية صراع الطبقات، وأن المرحلة المقبلة سوف تكون صراع الثقافات كما يذكر منظر صراع الحضارات المفكر الأمريكي "صامويل هنتغتون".
أم أن نظرية ماركس الاقتصادية صمدت بعد أفول شمس الاشتراكية، وهو الذي اعتبر أن السوق الرأسمالية لا تضبط نفسها تلقائيًّا، بل تُنتج بفعل تناقضاتها الداخلية أزمات دورية تؤدي إلى انهيارها. فهل هذا ما حصل في الأزمة الاقتصادية المالية العام 2008؟
حسناً، ماذا لو أجرينا مقاربة بين ما يجري في العالم العربي في هذه المرحلة، من تناقضات وتناحر وصراعات بين الجماهير والأنظمة، بين شرائح وطبقات اجتماعية فيما بينها، وبين ما جرى في الحالة الأوروبية خلال فترة تحولها من الإقطاع الزراعي نحو الثورة الصناعية، فماذا ستكون نتيجة هذه المقاربة، وإلى أية استخلاصات تصل بنا؟ إن اتبعنا المنهج الماركسي والذي يعتبره الشيوعيين الصيغة الأرقى في دراسة التحولات الثورية، فإن حالة الصراع بين نقيضين واضحة جلية في الحالة العربية. إذن ما الذي يفسر وقوف معظم الشيوعيين واليساريين العرب في وجه الجماهير، وانحيازهم للأنظمة. ألا يعني هذا أنهم يقفون في وجه التطور؟
هل كان ماركس المفكر والفيلسوف والثوري مخطئاً في نظرية المادية التاريخية التي تقوم على صراع بين نقيضين وهو ما يؤدي إلى تطور وتقدم التاريخ، أم أن معظم اليساريين العرب الفاشلين العاجزين المنافقين اختاروا أن يكونوا خارج التاريخ؟
الأزمة المبكرة
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عمد ستالين إلى ترسيخ نظام قيصري أبوي قمعي يرتكز على الولاء الشخصي وعبادة الفرد في روسيا المنهكة من الحرب. وتسبب انتصار الجيش الأحمر في دول وسط وشرق أوروبا إلى تعزيز سلطة الشيوعيين. وأدت عمليات التطهير التي جرت وطالت الأحزاب غير الشيوعية إلى اضطرابات كبيرة، ظهرت بداية في برلين العام 1953، ثم في بولندا العام 1956 وتم معالجتها بصورة سلمية. ثم في نفس العام واجهت موسكو تحدياً تمثل في الثورة المجرية، حيث تم تشكيل مجالس عمالية مستقلة عن سيطرة روسيا بعد إضرابات عامة واحتجاجات شهدتها المدن المجرية، لكن موسكو تعاملت مع هذه الأزمة بطريقة مختلفة، حيث تم قمع وسحق الانتفاضة بالقوة العسكرية والاعتقالات والإعدامات.
أدت هذه الأحداث إلى انشقاق مثقفين شيوعين في أوروبا عن أحزابهم وعن توقف عدد من الأحزاب الشيوعية في العالم أمام هذا الحدث، نتيجة خسارتهم لبعض عضويتهم، لكن اليساريين العرب كان الولاء لديهم ضريراَ بحيث لم يتوقفوا عند هذه الأحداث. ولم تستوقفهم جرائم ستالين التي جرى نقاشها في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي العام 1956 أي بعد ثلاث سنوات على وفاة ستالين، حين ندّد "نيكيتا خروتشوف" الأمين العام للحزب بعبادة شخصية ستالين، وأساليبه الديكتاتورية التي جعلت منه طاغوتاً، حيث أقدم على إعدام ونفي مئات الآلاف من معارضيه، وتم الإعلان عن القطيعة مع الستالينية، لكن مع ذلك استمر الشيوعيين العرب في دفاعهم عن مواقف وأفكار ستالين.
ولم يتغير الوضع نسبياً إلا مع اشتداد الصراع الناعم السوفيتي الصيني في ستينيات القرن العشرين، لا سيما خلال المرحلة التي قادها كل من الزعيمين "نيكيتا خروتشوف" في روسيا و"ماو تسي تونغ" في الصين، حيث انتهت الأحادية القطبية، والمرجعية النظرية للحركة الشيوعية العالمية، وصار بالإمكان فتح أبواب السجالات والنقاشات والحوارات الفلسفية والنظرية فيما يتعلق بالفكر الشيوعي برمته، داخل الأحزاب الشيوعية أو فيما بينها. وهو ما أسهم في انتعاش الفكر الماركسي النقدي الغربي، الذي تحرر من سطوة الأحزاب الشيوعية وخطابها الحجري.
ظهور ماريشال البيروقراطية
تم عزل خروتشوف عن زعامة الحزب الشيوعي السوفيتي ورئاسة الدولة في واحد من تجليات الأزمة الداخلية المتصاعدة التي كان يعيشها الحزب، وصعد ماريشال الاتحاد السوفيتي البيروقراطي "ليونيد بريجنيف" لقيادة الحزب.
كانت أزمة الحزب الشيوعي السوفيتي واضحة ومع ذلك استمر اليساريين العرب في التنظير الذي يفيد أن الاتحاد السوفيتي كان حينذاك في مرحلة الانتقال من طور الاشتراكية إلى الشيوعية!. ولم يكن أحداً غيرهم يعتقد ذلك حتى أعضاء الحزب الشيوعي السوفيتي. كما واصل اليسار العربي نشر النظرية البائسة حول مقدرة الدول النامية – ومن ضمنها الدول العربية- على التطور غير الرأسمالي، بواسطة دعم البرجوازية الصغيرة الراديكالية، وهي غالباً تعني دعم الانقلابات العسكرية في العالم العربي.
لقد قضى قيام جيوش حلف وارسو بسحق انتفاضة براغ العام 1968، على كل أمل للإصلاح داخل الحزب الشيوعي السوفيتي وداخل مؤسسات الدولة، وأدى هذا الفعل إلى اعتراضات من عدة أحزاب شيوعية أوروبية، لكن الولاء المطلق لموسكو أبداه اليساريين العرب وأحزابهم، وبعض القوى الشيوعية في دول العالم النامي. وما زال للآن الكثير من غلاة اليساريين العرب يعتبر أن أي نقد للأرثوذكسية السوفيتية يعود إلى واحدة من اثنتين، إما مؤامرة امبريالية، وان صدقت النوايا فهو مرض المراهقة اليسارية. حتى الثورة الثقافية في الصين نظر لها اليساريين العرب على أنها إجراء وقائي من خطر الرأسمالية. ومن المفارقات أن صعود "دنغ شياو بينغ" بعد وفاة ماو تسي تونغ في العام 1978 شكل انعطاف حاسم في توجه الصين نحو الرأسمالية في ثمانينيات القرن الماضي، وهي التي جعلت الصين على ماهي عليه الآن.
ومع كل التطورات وتصاعد الأزمات الداخلية في الحركة الشيوعية العالمية في السبعينيات، لم يرغب أحد في التوقف والتقييم. لقد كان معظم الأحزاب الشيوعية العربية مصابة بعمى عقائدي حال دون أن تدرك أن ميزان القوى العالمي يشير إلى انحسار الأيديولوجية الماركسية وتحولها من كونها أداة التغيير الثوري، إلى حالة من البيروقراطية وعبادة الفرد الزعيم منذ منتصف السبعينيات.
وحين انهار جدار برلين العام 1989 وسقطت الأنظمة الاشتراكية، تسابقت شعوب دول أوروبا الشرقية التي كانت تحكمها أنظمة يسارية، إلى تبني الرأسمالية والاستمتاع ببعض منافعها، واقتنعت شعوب أوروبا الغربية أن النظام الرأسمالي مهما كان سيئاً فهو أفضل من جنة الاشتراكية.
ماذا حل بالشيوعيين العرب
في مرحلة ما بعد انهيار المعسكر الشرقي، بعض اليساريين العرب تمسك بشيوعيته مسروراً، ومعظمهم ارتد إلى الأفكار القومية المتطرفة أو الدينية المتشددة، والقلة اليسيرة منهم تبنوا الليبرالية المدنية الغائمة المائعة الملتبسة. أما اليساري الكلاسيكي فهو منكفئ عن الجميع، يتأمل حائراً في عزلته هذا الواقع العربي بأبعاده المختلفة، التي لا يجد هذا اليساري في الكتب التي قرأها ما يكفي لفهم وتحليل الارتدادات الطاحنة للمتغيرات المهمة التي يشهدها هذا الواقع خلال العقدين الأخيرين.
فخلال السنوات الثلاثين التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان اليساريين العرب مؤمنين أن تحقيق الانتصار على الرأسمالية مسألة وقت، وأن الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في الدول الغربية قادرة على تحجيم الرأسمالية ثم تفتيتها.
ولم يدرك اليساريين العرب كما غيرهم أن الفكر اليساري كان يعاني من أزمة عميقة المنشأ، متشعبة وشائكة، اشتدت حدتها بعد سقوط النظام الاشتراكي، وهيمنة الأيديولوجية الليبرالية الحديثة على العالم.
لا يمكن ليساري حقيقي، الإنكار أن الأزمة المركبة التي أصابت الاتحاد السوفيتي وبقية دول المنظومة الاشتراكية، وانتقلت عدواها إلى الأحزاب الشيوعية في بقية أنحاء العالم بما في ذلك الأحزاب العربية، كانت أزمة عميقة وجادة وخطيرة في البنية والقيادة والتطبيق والأدوات والنقل وسفر النظرية وتصدير الثورة والعلاقة بين الاتحاد السوفيتي وبقية دول المنظومة، وبينه وبين الأحزاب اليسارية، وبينه وبين الحزب الشيوعي الصيني. لكن أولوية التصدي للرأسمالية الاستعمارية وتغولها في أماكن مختلفة من العالم، والتأييد غير المشروط للحزب الشيوعي الروسي ومواقفه ورؤيته للصراع في العالم، أعاق اليساريين العرب عن التوقف لحظة والتقاط الأنفاس، وإجراء نقد عميق وحقيقي للتجربة ومقاربتها وتحليل نتائجها، والجواب على السؤال المركزي فيما إن كانت الاشتراكية والنظرية الماركسية تتوافق مع الواقع العربي بكافة أبعاد مشهده المعقد الشائك والمتداخل الذي يختلط فيه الدين بالأعراف، والجهل بالعالم، والأساطير بالحقائق، ويتسم بالسكينة وغير معتاد على أفكار تأتي من خارج موروثه الثقافي، ولا تساءل اليساريين العرب إن كانت الاشتراكية تنسجم مع غاية نضالهم وأهدافهم التي يسعون لتحقيقها، ولم يمنحوا أنفسهم فرصة الاطلاع على الأفكار والأدبيات اليسارية المخالفة للرؤية الشيوعية الروسية. وإن ظهرت بعض المقاربات السطحية حول البيروقراطية الستالينية على سبيل الذكر، والتنديد بجرائمه بحق المعارضين. ومر البعض على الأدبيات التروتسكية مروراً، والبعض كان أكثر جرأة في التناول النقدي للتجربة اللينينية ومجمل أحداث الثورة البلشفية. ومما أسهم أيضاً في إحجام اليساريين العرب عن المضي بعيداً في نقد التجربة الروسية، هي شبكة العلاقات الرفاقية التي كانت تجمعهم مع الشيوعيين في العالم أفراداً وأحزاباً ومؤسسات ونقابات.
انحسار اليسار الأوروبي
في القارة الأوروبية معقل الرأسمالية والبروليتاريا، تواجه الأحزاب اليسارية خطر الاندثار، حيث كانت المنافسة تاريخياً في الدول الأوروبية الغربية بين الأحزاب اليمينية الوسطية، وأحزاب اليسار الوسط، وهي أحزاب ديمقراطية اجتماعية، ولكن تغير الحال خلال السنوات الأخيرة، إذ تكبدت هذه الأحزاب خسائر انتخابية كبيرة لصالح الأحزاب اليمينية المتطرفة، في عدد من الدول الأوروبية وأبرزها في فرنسا وهولندا وألمانيا وإيطاليا والمجر وسلوفينيا والنمسا والسويد والدانمرك.
كثيرة هي الأسباب التي أدت إلى تراجع اليسار في أوروبا، لعل أهمها اختفاء الطبقة العاملة بصورتها التقليدية، والأثر الذي خلفه انهيار الاتحاد السوفيتي على مجمل الأحزاب اليسارية العالمية، والانقسامات الداخلية في هذه الأحزاب نتيجة الخلافات على قضايا غالباً غير مبررة، وغياب الشخصيات القيادية التي تتمتع بالكاريزما عن الأحزاب اليسارية، ثم أن العديد من تلك الأحزاب تحول تدريجياً خلال العقدين المنصرمين من اليسار إلى الوسط، وهناك أيضاً الأثر الذي تركته العولمة والنظام العالمي الحديث بعد الثورة الرقمية، النظام الذي كسب أنصاراً له على حساب الأيديولوجيات ومفهوم العدالة الاجتماعية. ومن الأسباب المهمة أيضاً لتراجع الأحزاب اليسارية الأوروبية، تمدد الأفكار اليمينية في المجتمعات واتساعها، وقدرتها على اكتساب المزيد من المؤيدين، الذين استطاعت القوى اليمينية المتشددة من استقطابهم عبر دغدغة مشاعرهم القومية، واستغلال الوضع الاقتصادي السيء في عدد من الدول الأوروبية، ثم ظهر خلال السنوات الأخيرة عامل جديد مرتبط بالموقف من الهجرة ومن اللاجئين في هذه الدول، إذ أن عدد الناخبون الأوروبيون الذين يعارضون الهجرة في ازدياد، وهؤلاء لا يعتقدون أن اليسار قادر على وقف الهجرة أو الحد منها.
ولا تستطيع الأحزاب اليسارية الأوروبية أن تجري تغييراً جذرياً في خطابها ومواقفها، وبات من الواضح أنها لا تمتلك الجرأة -للآن- على نسخ وتبني الوصفات والمقاربات القومية المتشددة لليمين العنصري، لأن من شأن هذا لو حصل، أن يكون له آثار اقتصادية على المجتمع، وفيه تناقض صارخ مع قيم العدالة الاجتماعية، وسوف يؤدي إلى سقوط أخلاقي تام لهذه الأحزاب.
يسار جديد
منذ سقوط الاتحاد السوفيتي وكثير من المفكرين اليساريين طرح قضية "يسار جديد"، فهل نحن فعلاً بحاجة إلى يسار جديد، وما الذي فعله اليسار القديم حتى نراهن على آخر جديد؟
بظني أن الناس كانت وماتزال تخوض صراعها للحصول على حقوقها بدون حاجتها لليسار، فالناس قبل الشيوعية كانوا يدافعون عن مصالحهم وهويتهم وحقوقهم، وسوف يظلون هكذا بعد انهيار الاشتراكية. ناهيك عن أن لا أحد الآن في هذا العالم يفكر ويناضل من أجل استبدال النظام الرأسمالي بأخر اشتراكي، ثم أن الكثير من القضايا المطلبية التي تناضل من أجلها اليوم الهيئات والمنظمات والجماعات، لا تحتاج مطلقاً أن يكون الإنسان خبيراً بالمادية الديالكتيكية.
من جانب آخر يلاحظ اندثار المعاني الكونية الأممية للفكر اليساري، الذي كان يجعل الناس في أفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا وأوروبا شركاء في الصراع ويتضامنون فيما بينهم. جميع الصراعات في الوقت الراهن تأخذ طابع المحلية، وتكون مقتصرة على قضايا محددة، ليس لأن القضايا الكبرى التي آمن بها اليساريين وغيرهم من المفكرين والمثقفين لم يعد لها وجود، إنما لم يعد هناك صراعاً يمكن قياسه بلغة اليسار الماركسي، واختلطت مسببات وغايات الصراع وتعقدت، بحيث أنك أصبحت تتحالف مع أحد يساري على قضية ما، ثم تتصارع معه على قضية أخرى، إذ لم يعد هناك معيار مرجعي.
في العالم العربي لم يعد لليسار أي دور في المشهد السياسي الذي تسيطر عليه قوى سياسية فاعلة شديدة التأثير في المشهد من خارج أطر الدولة، وهي التي تحدد هوية الصراع، مثل الشركات العملاقة عابرة القارات متعددة الجنسيات، والمنظمات المدنية الأممية، وكذلك القوى وجماعات الإسلام السياسي. وفي مجتمعات تتسم بالتعدد القومي والعرقي والطائفي والمذهبي يصبح الفكر اليساري أشبه ما يكون بقبعة أكثر منه انتماء وأيديولوجيا، حيث يُقدم عليه العديد من أبناء الأقليات العرقية العربية لارتدائه كدرع واق في مواجهة الأغلبية التي يجمعها عرق ودين ومذهب واحد.
آمن ماركس بأن مهمة الفلسفة تغيير العالم، لكن الفكر اليساري لم يعد صالحاً لرؤية العالم ولا فهمه وشرحه ولا تغييره، وأصبح الفكر الماركسي بمثابة موروث نضالي وقيمة ثورية يتم الاحتفاظ بها في صندوق نعود إليه حين يغلبنا الحنين.
لم يعد الصراع السياسي بظني بين اليسار واليمين، ولم يعد التمييز قائماً وواضحاً بين اليمين واليسار كما كان أيام الثورة الفرنسية، فاليوم نرى أصحاب فكر يساري وأصحاب فكر يميني يجتمعون على مواقف عديدة في هذا العالم.
قيادة معصومة
لا زال اليسار العربي -أحزاباً وأفراداً- عاجزاً عن القيام بمقاربات نقدية حقيقية لتجربته، وللتجربة الشيوعية التي انهارت في موطنها، فيما يظهر اليساريين العرب أشبه باللاهوتيين في مقاربتهم للماركسية ولبعض الأفكار التي لم تعد ترتبط بواقع الناس في ظل التغييرات والتحولات العالمية، ولا يزال هذا اليسار متخبطاً حائراً، دون مقدرة على صياغة مشروعه السياسي في ظروف تاريخية عاصفة هائجة تموج في البحر العربي، وتهدد حاضر ومستقبل المنطقة وشعوبها.
البعض من المفكرين الماركسيين أشاروا بوضوح إلى المأزق الذي وصل له الفكر الماركسي في مرحلة ما قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث أصيب بالجمود نتيجة قناعة الماركسيين بأن الفلسفة الماركسية ألغت ما قبلها من فكر فلسفي، ولم تتمكن أية فلسفة أخرى من التفوق عليها. هذا تماماً جوهر الخطاب السلفي، وهنا يلتقي هؤلاء اليساريين في خندق واحد مع الأصولية الدينية التي ترفض التحديث والتنوير.
اليسار العربي، وخاصة قيادته ورموزه لم يتمكنوا من فهم واقعهم سابقاً وقراءته قراءة صحيحة، واليوم هم أنفسهم لم يغادروا مربعهم، وبالتالي عاجزين ما زالوا عن مقاربة الواقع الراهن، ورؤية التحولات الهائلة التي حدثت في العالم خلال ربع القرن الأخير، ولم يكلف أحداً منهم نفسه بالاطلاع على الفكر والفلسفة الحديثين.
الكارثة أنهم القيادة نفسها التي كانت تؤمن وتنظّر بأن الاتحاد السوفيتي السابق في طور الانتقال من الاشتراكية إلى طور الشيوعية، في ثمانينيات القرن العشرين، بينما كان الفكر الماركسي وأحزابه يعانيان من أزمات عميقة، هؤلاء المحاربين القدامى اليساريين الذين تربعوا على قمة القوى والأحزاب اليسارية العربية طيلة نصف قرن، ما زالوا غارقين في أوهام إمكانية لوي عنق التاريخ وإرغامه على العودة إلى الوراء.
أدركت شعوب الأرض أن للرأسمالية الامبريالية جانبها المضيء، اعترف اليساريين بهذا أم رفضوا. وفي عصر التقنيات الحديثة والثورة المعلوماتية والرقمية الذي أصبح واقعاً حقيقياً وليس افكاراً راقدة في الكتب، على اليساريين العرب أن يدركوا هذه الحقيقة ويقوموا بإجراء مقاربات واقعية معها. في الراهن الزمني لم يعد مطلب تغيير العالم مهمة الطبقة العاملة التي فقدت ملامحها في الغرب، نتيجة التغيرات والتطور في وسائل الإنتاج والتحولات الاقتصادية والاجتماعية.
في هذه التحولات أرى أنه من الفطنة ملامسة الواقع بصورة حقيقية هذه المرة، وتقديم قراءة جديدة تسهم في بلورة رؤية مختلفة، ومن ثم صياغة أهداف تتوافق مع التغيرات العالمية، وتحظى بواقعية والتفاف الناس حولها، مثل قضايا الديمقراطية والحقوق العامة ومواجهة الاستبداد السياسي للأنظمة، والديني للحركات المتطرفة، والدعوة لبناء الدولة المدنية التي تكفل قيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
لا مهرب من الاعتراف بأننا
لم نعد نلحظ أي نشاط وفاعلية وتأثير للأحزاب والقوى اليسارية العربية، ولم يعد لها أي دور سياسي ولا اجتماعي، وستظل هذه الأحزاب في انسحال اندثاري ما لم تدرك طبيعة التحولات العالمية التي بدّلت الطابع الاجتماعي للبشر، وكلما تأخرت ومكثت أكثر في مثلث الكتب والنظريات الفلسفية، والغرف المغلقة، وحالة الاغتراب عن الجماهير، كلما تراكمت فوق مفاصلها المتغيرات، إلى أن يأتي يوم -ليس بعيداً كثيراًـ سوف تصاب فيه هذه الأحزاب بالشلل التام قبل أن تصبح شيئاً من الماضي البهيج.
بقلم/ حسن العاصي