ما لم يُقل في الصعود إلى قمة كليمنجارو

بقلم: إبراهيم نصر الله

هنالك رحلات كثيرة يقوم بها الإنسان، بعضها إلى داخله، وبعضها إلى مناطق لم يحلم بالوصول إليها من قبل، بعضها في الحاضر، بعضها في الماضي، وبعضها في المستقبل، وسواء كنت كاتبا يتنقل بين هذه الأزمنة، أو حالما، أو واقعيا، فلا يمكن أن تمرّ روحك في مكان ما دون أن تبتلّ بطعم هذه الأسفار أو روائحها.
ذلك بعض ما جاء في رواية (أرواح كليمنجارو)، التي أستعيد وقائعها هذه الأيام، وتفاصيل تلك الأيام الصعبة الرائعة التي تُوِّجت بوصول فتــــيان فلسطينــــيين فقدوا بعض أطرافهم-باتوا شبابا اليوم-إلى قمة جبل كليمنجارو، أعلى قمم إفريقيا، وكان لي شرف مرافقتهم حتى تلك القمة، مع مجموعة من الرائعين الذين جاؤوا لدعمهم، ودعم جمعية إغاثة أطفال فلسطين، من معتقــــدات كثيرة وقارات كثيرة. تلك الرحلة التي كانت فكرة/ حلما، للصديقة سوزان الهوبي، أول امرأة فلسطينية عربية تصل إلى قمة إفرست، أعلى قمم العالم.
كان ذلك في الثالث والعشرين من مثل هذا الشهر، عام 2014، بعد رحلة صعود استمرت ستة أيام، ورحلة هبوط استمرت ثلاثة أيام، في درجة حرارة وصلت، في الأعالي، إلى 15 درجة مئوية تحت الصفر، ونسبة أكسجين، على ارتفاع عشرين ألف قدم تقريبا، تغدو نصف نسبة الأكسجين التي نتنفسها عند مستوى سطح البحر.
ما جعلني أعود إلى تلك الرحلة الصعبة، الجميلة، هو اكتشافي لكثير من الملاحظات والأفكار والطرائف أيضا في ذلك الدفتر الذي كنت أسجّل فيه، طوال تلك الأيام، التفاصيل الصغيرة والكبيرة التي عشناها، التفاصيل التي لم تجد مكانا لها، في النص الروائي، بعد ذلك، لسبب ما، وسأذكر هنا بعض ما يمكن أن يتّسع له هذا المقال من ذكريات وأفكار:
يأخذ الجبل منك الكثير، ينهكك، حتى تظنّ أنه أخذكَ كلك، ولكنك حين تتجاوز هذا، ستكتشف أن الجبل أعطاك أكثر مما أخذ منك بكثير.
قال ستيف، رئيس جمعية إغاثة أطفال فلسطين، لمعتصم (من غزة، فقَدَ ساقا وجزءا من أصابعه بسبب القوات الصهيونية) بعد النزول من الجبل: أتمنى أن تكون يا معتصم، في المستقبل، سفيرا لفلسطين، هنا، في تنزانيا، ذات يوم. فردّ معتصم: والله فكرة ممتازة، ولكن أتمنى ألّا تكون السفارة على قمة الجبل!
كانت ياسمين (من نابلس، فقدت ساقا)، تستعيد حكايات أخيها الصغير التي كانت فاكهة الرحلة ومصدرا من مصادر الفرح خلالها: كلما طلبنا منه تغيير قناة التلفزيون كسر الريموت. يغضب أبوه حين يعود، فيردّ الصغير: يعني شو بدك إياني أعمل؟ أكسر الريموت ولّا أكسر نظارتي؟!
تتحدث يارا مع معتصم، تسأله: شو حابب تصير في المستقبل، بعد التخرج من المدرسة؟ فيردّ: بعد أن صعدت الجبل، على الأقل سوبرمان!
كنت أراقب عداد ارتفاع الطائرة على الشاشة أمامي، كانت ترتفع وترتفع، وحين أشار العداد إلى ارتفاع 20 ألف قدم، ارتفاع قمة الجبل، نظرتُ من النافذة، وأدركتُ أي معجزة تلك التي حققها معتصم وياسمين.
المضيفة، علمت بحكاية الرحلة، وقفت تحدق إلى الفريق وبطلَي الرحلة، بعينين دامعتين، ذهبت إلى الميكرفون وأعلنت لكل من في الطائرة: اسمحوا لي أن أقول لكم إنني فخورة اليوم بركابي كثيرا، وسردت لركاب الطائرة حكاية أطفال فلسطين.
في الطائرة، هرب مالك، اللبناني النبيل، إلى مقدمة الطائرة، كان مالك يحسّ أن أي كلام إضافي مع معتصم سيجعل الفراق أقسى؛ هرب بعيدا إلى مقدمة الطائرة، حيث وجد كرسيا فارغا. كان مالك يضحك أكثر من المعتاد، لأنه كان يخشى أن يبكي كما لم يبكِ من قبل وهو يودع ذلك الفتى الذي تحوّل إلى فَرَاشة لروحه، كما تحوّل بدوره إلى حصان لروح معتصم، لكن أحدا لا يستطيع الفرار من الوداع أبدا، لأنه لو فعل سيغدو فراره وداعا أكثر مرارة مستقبلا.
لن أسمح لأحد أن يقف في طريق سعادتي، كانت رانيا تقول، هي التي تصعد الجبل للمرة الثانية. بعد الرحلة، اكتشفت رانيا أنها مصابة بالسرطان، لكنها كانت وفيّة لذلك الذي قالته لنا على سفح الجبل، إذ لم تترك حتى السرطان يقف في طريق سعادتها، قاومته، وتزوّجت، وبدأت حياة جديدة.
قال لي معتصم، تأثّرا بما تركته الرحلة فيه من أثر عميق، في اليوم التالي للنزول من القمة، اليوم الأصعب الذي سرنا فيه 12 ساعة صعودا وخمس ساعات هبوطا، أي منذ الرابعة صباحا حتى التاسعة ليلا: أريد أن أبكي! فقلت له: ولماذا لا تبكي؟ فردّ: لأن الرجال لا يبكون في غزّة!
لم تكن رحلة، لم تكن مغامرة، كانت حياة. كنا نصعد والغيوم تصعد نحونا، والقمم الأقل انخفاضا من قمة ذلك الجبل العظيم، تحاول اللحاق بالغيوم.
وبعد.. عودة للرواية:
قال صوول، رئيس الفريق التنزاني المرافق للصاعدين: أولا، أحبّ أن أعبر عن سعادتي بكم، أظنّكم أفضل فريق متجانس صعدتُ معه، كما أحبّ أن أعبّر عن فرحي بتنوِّعكم، سواء من حيث البلدان التي أتيتم منها أو من حيث دياناتكم. إنني مسيحي كما تعرفون، ولكن لي أخا مسلما، فهنا لا يكون الإنسان مُلزما بدين والديه، بل يختار دينَه حين يكبر، وأخي اختار أن يكون مسلما، ولذا أحسّ أن بيتي في (أروشا) قد اتّسع الآن بكم، وهذا أمر حقيقي ألمسه، وهو أكثر وضوحا، حتى، من القمم! فهناك قمم حقيقية وهناك قمم سراب! وصمتَ صوول لحظات طويلة وهم يحدقون فيه. مسح شفتيه بيده، ثم التفت إليهم وكأنه عاد من رحلة طويلة، وابتسامة رائعة على شفتيه، وقال:
في كلِّ إنسان قمةٌ عليه أن يصعدها وإلا بقيَ في القاع.. مهما صعَدَ من قمم!

إبراهيم نصر الله