من المنتظر خلال الأيام القريبة، أن تنتخب معظم هيئات الأحزاب العربية أسماء مرشحيها الذين سيمثلونها في انتخابات الكنيست المقبلة. ومع إنجاز هذه المرحلة سيتحتم على الجميع التوقف عن لعبة «عض الأصابع»، وحسم قضية مستقبل القائمة المشتركة بدون مناورات أو مقامرات أو مزايدات.
وبعيدًا عن تأييد أو معارضة قرار النائب أحمد الطيبي، وحركته العربية للتغيير ، بالانفصال عن القائمة المشتركة، فقد شاهدنا كيف سبّبت خطوته حراكًا سياسيًا استثنائيًا داخل مؤسسات معظم الأحزاب والحركات العربية، وتفاعلًا نشيطًا بين النخب والمثقفين، واحتدامًا للجدالات في الشارع العربي عمومًا، حيث بدا وكأنه يصحو من «خبله السياسي» المستشري، ومن إحباطاته التي عزّزها سلوك قيادات القائمة المشتركة، خاصة خلال ما يسمّى بأزمة التناوب، أو صراع الكراسي والبقاء.
لقد نُشرت وانتشرت، في أعقاب خطوة الطيبي، عشرات المقابلات المتلفزة والمسموعة والمقالات «والستاتوسات»؛ ومن اللافت أن أصحابها لم يتّفقوا، كما هو متوقع وطبيعي، على موقف يُقرّ بكون القائمة المشتركة، بمركّباتها الحالية وبطريقة أدائها السابقة، أفضل الخيارات وأسلمها، وأنها الضمانة المثلى لمواجهة سياسة اليمين الإسرائيلي المستوحش. لقد رمى الطيبي، لأسبابه الخاصة، حجَره في بركة من سراب، فتكشفت «المنارة» وهمًا ومعضلة، رغم ما ردده الحلفاء، طيلة سنين الوحدة، كأحفاد قوم آمنت قبائله «بأن العصيّ إذا اجتمعن تأبى تكسرا، واذا افترقن تكسّرت أحادا». بفذلكة دعائية أعلن معظم القياديين السياسيين، بمن فيهم الطيبي نفسه، على أن خيارهم الأول كان وسيبقى الوحدة والعمل المشترك، لكنّ بعضهم أردفوا، بهدي حكمة «الأمير» ومن باب المناورة – كما جاء في تصريح للدكتور منصور عباس، نائب رئيس الحركة الإسلامية الجنوبية، ورئيس القائمة العربية الموحدة، وعلى لسان بعض قيادات الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة – أن حزبهم سيخوض معركة الانتخابات المقبلة وحيدًا في حالة فشل محاولات إعادة الطيبي وحركته إلى حضن القائمة المشتركة. ستخبرنا الأيام من كان منهم صادقًا ومن لم يكن إلا مناورًا.
تقوم جميع الأحزاب، في هذه الأيام، بعمليات تقييم وحسابات لمدى قوتها الحقيقية، بمنأى عن هواجس الإعلام وضروراته وعن هرطقات الدعاية وأهميتها، فأثر القرار الإسرائيلي برفع نسبة الحسم لم يختبر بشكل واقعي، ولم يمتحن تأثيره على حظوظ نجاح الأحزاب العربية، وعلى دخولها للكنيست إلا من خلال القائمة المشتركة فقط؛ علاوة على أن الاعتماد على نتائج استطلاعات الرأي، عندنا نحن العرب، مثله مثل التعويل على تعاويذ «قارئة الفنجان» وهي تطمئن «الأسمر» الجالس أمامها وترجوه، جزافًا، بألا يحزن؛ في حين يبقى الاستدلال بنتائج الانتخابات المحلية مؤشرًا محدودًا، لا يجوز الاطمئنان له والركون إليه بشكل حاسم.
لقد اعترفت القيادات، بعد انسحاب الطيبي، بأن القائمة المشتركة ارتكبت أخطاء ووقعت في هفوات، وقد ذكر جميعهم أزمة التناوب، وأشار بعضهم إلى إهمالها تطوير مضامين سياسية مشتركة، لو أنجزت، كانت ستساعدهم على تمتين وحدتهم وعلى عدم إبقائها مجرد شراكة تقنية هشة ومعرضة للزلات والمشاحنات، التي ساعدت على ابتعاد الناس وفقدانهم الثقة بالقائمة، وإلى عزوفهم عن العمل السياسي، حتى البدائي منه، الضروري لصقل هوية الفرد وانتمائه المجتمعي السليم.
سيبقى النقاش حول ضرورة العمل الوحدوي، رغم إقرارنا بحيويته وضرورته في هذا الواقع الإسرائيلي الخطير، مجرد عنوان نظري وشعاراً لا رصيد له في هذه المعطيات السياسية الحزبية العربية؛ فأنا لا أعرف لماذا يراهن مؤيّدو إعادة بناء القائمة المشتركة على تعزيز حتمية نجاح الوحدة، رغم ما أثبتته التجربة في السنوات الماضية؟ ولا أعرف كيف بنى هؤلاء الدعاة افتراضهم القاضي بأن الشركاء سيتصرفون، هذه المرة، بشكل مختلف عمّا تصرفوا في الماضي؛ علمًا بأننا لم نقرأ تلخيصًا مهنيًا واحدًا استعرض فيه حزب أو حركة مشاركة في القائمة مراحل تلك التجربة، وضع فيه الخلاصات والأصابع على النواقص وعلى الهفوات مقابل الإنجازات أو اقترح من خلاله الحلول والضمانات لتحسين الأداء. فخلال سنين التزاوج لم تنقشع غيوم البغضاء من سماوات شركاء «الدرب والمصير»، ولم تستثمر معظم الهيئات الحزبية جهودًا جدّية في قطع دابر الملاسنات، ولم تُبدِ القيادات نواياها لدفن ضغائن الماضي، بل كان بعضهم يشجّع، إما جهاراً وإما بالخفاء، استمرار المناكفة، ويؤجّج استعار المشاحنات، لأنها كانت بالنسبة لهم أضمن الوسائل للمحافظة على ولاء الجيوش، وعلى تخندقها وراء جنرالاتها في المعسكرات الحزبية؛ أمّا الوحدة المعلنة فلم تكن في الواقع، أكثر من صبغة لأقنعة أخفت أنيابًا عطشى. لن يناقش عاقل على أننا، نحن المواطنين العرب، بحاجة إلى بناء جبهة عريضة، تكون قادرة على الصمود في وجه غول الفاشية المنفلت في مواقعنا؛ ولكن لن يكفي هذا الإقرار لتحقيق هذه المهمة، إذا لم يرافقه اتفاق بين الشركاء على تحديد معسكرات الأعداء مقابل معسكرات الحلفاء، وإجماع على وسائل المواجهة وميادينها. فنحن لسنا في معرض مناظرة أكاديمية، ويكفينا بتجربة القائمة المشتركة برهانًا على أن شعار الوحدة قد يكون أجمل اليافطات، لكنه قد يصير، في المقابل، رداءً رثّاً يؤذي ما تحته ولا يحميه. فهل سنجد ملجأنا الوحيد في استعادة ابن القائمة «الضال»؟ أم سنلقى في إعادة بنائها خلاصنا الأكيد؟ أشك في ذلك! فكما في الماضي، سيبقى في المستقبل دوف حنين وأيمن عودة حليفين «للشيطان» لأنهما ابنان لحزب يؤمن بأن زهافا جلئون وأبراهام بورغ وأمثالهما هم حلفاء للعرب في معركتهم ضد الفاشيين، وأشك في ذلك! لأنني لا أعرف كيف يمكن أن يتعايش، تحت سقف واحد، من يرى في بشار الأسد حاميًا لعرين عروبته ولكرامته، مع من يرى في أردوغان سلطانه أو في طول عمر الأمير المفدى مآله؟ وأشك في ذلك! لأنني لا أستوعب كيف سترضى حنين زعبي مثلاً التنازل لمن لا يستطيع، رغم انفتاحه الصادق، إلا أن يسوّغ زواج الرجل بأربع، كما تأمره الشريعة وقوانينها؟ وأشك في ذلك! لأنني لا أفهم كيف ستصان الوحدة بين أحمد الطيبي ومن يعتبره عميلًا لسلطة رام الله و»لأذناب» أوسلو.
وأخيرًا، نحن بحاجة إلى إقامة جبهات نضالية حقيقية؛ هي ربما ثلاث جبهات، لكنني اقترح، ونحن عند أعتاب المعركة، إقامة جبهتين، تشترك في الأولى كل القوى العربية التي لا ترفض التحالف مع جميع القوى اليهودية، غير الصهيونية والصهيونية، والتي تؤمن بضرورة إنهاء الاحتلال الاسرائيلي والتصدي للقوى الفاشية، وبضرورة محاربتها على جميع الأصعدة وفي كل الميادين ومن أجل إقامة نظام حكم ديمقراطي حقيقي. والجبهة الثانية ستكون عربية – عربية تجمع كل من تبقى من قوى سياسية لا تقاطع الانتخابات، وترى في الكنيست حلبة للنضال المدني ووسيلة كفاحية مقتصة من مواطنتنا في الدولة.
ويكفي العاقل شر تجربة وحدة؛ فقد نكتشف أن خوض الانتخابات بقائمتين/ جبهتين سيكون أنجح من خوضها بقائمة مشتركة واحدة، شريطة أن يتمّ توقيع اتفاقية فائض أصوات بين القائمتين، وأن تتعهدا بالمحافظة على أجواء تنافسية إيجابية غير عدائية، وأن تعملا على زيادة أعداد الناخبين ومحاربة نداءات المقاطعة وتأثير حالات الركود السياسي المتنامي.
يتبع..
جواد بولس
كاتب فلسطيني