قصص السجن كثيرة، ولا حصر لها. وحكايات الأسرى خلف القضبان مريرة ومؤلمة، يصعب وصفها لشدة قسوتها. ففي السجن أجساد مقيدة وحريات مُكبلة وأرواح كئيبة ودموع حزينة وأخرى مقهورة. وفي السجن رجالٌ آمنوا بعدالة قضيتهم وناضلوا المحتل فاعتقلوا. وفي السجن رجالٌ تركوا أمهاتهم وآبائهم وأبنائهم وعائلاتهم لأجل حرية الأرض والإنسان وما ندموا. وخلف الشمس رجالٌ أقوياء أفنوا زهرات شبابهم وأمضوا نصف أعمارهم، بل وأكثر ولم ينكسروا. وخلف القضبان رجالٌ أنهكت الأمراض أجسادهم فسقطوا شهداء.
"فارس" هو واحد من أولئك الرجال الذين اعتقلوا قبل أوسلو وقضوا أكثر من نصف أعمارهم خلف القضبان، فأنهك السجن جسده، ونهشت الأمراض عظامه واستوطنت بداخله وأهملته ادارة السجن دون ان تقدم له الرعاية الطبية اللازمة، فسقط شهيداً والتحق بقافلة شهداء الحركة الأسيرة في السادس من شباط/فبراير 2019.
ولد الشهيد فارس أحمد محمد بارود" عام 1968، في مخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين غربي مدينة غزة، لعائلة تنحدر من بلدة "بيت دراس" شمالي قطاع غزة والتي يشتهر أهلها بالقوة والعناد ويعرفون باسم "البدارسة". ,تلقى تعليمه الأساسي في مدارس الاونروا في مخيم "الشاطئ" للاجئين الفلسطينيين، وأتم الثانوية العامة في مدارس المدينة.
في الثالث والعشرين من آذار/مارس عام 1991، اعتقلته قوات الاحتلال بتهمة مقاومة الاحتلال وقتل مستوطن اسرائيلي طعنا بالسكين. وفد أصدرت احدى محاكم الاحتلال العسكرية بحقه حكما بالسجن المؤبد (مدى الحياة).
و منذ اعتقاله وخلال ثمانية وعشرين سنة قضاها في السجن، تعرض بارود الى صنوف متعددة من التعذيب الجسدي والنفسي، وعاش خلال سنوات الأسر الطويلة في ظروف قهرية ومرّ بمواقف مؤلمة واستثنائية. ولأسباب عديدة مكث وعانى وعاش في زنازين العزل الانفرادي بعيدا عن السجناء العاديين سنوات تزيد عن نصف اجمالي السنوات التي قضاها في السجن، وما أدراك ما العزل الانفرادي وتأثيراته؟ فما من أسير تعرض للعزل ثم بقي سوياً، جسدياً أو نفسياً.
وفي العام 2000 منعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي والدته العجوز الحاجة "أم فارس" من زيارة ابنها بذريعة "الأمن"، فيزداد "فارس" قهراً في سجنه، وتزداد العجوز ألماً وحزنا لحرمانها من رؤية فلذة كبدها. فاشتد مرضها وأنهك جسدها لتفقد بصرها بالكامل، ولم تعد ترى شيئا.
وظلت أم فارس تترقب الإفراج عن نجلها الوحيد من الذكور، لعلها تتمكن من ملامسته واحتضانه قبل ان تفارق الحياة، ولم تيأس، إلى أن تم اسر الجندي الإسرائيلي "جلعاد شاليط" عام 2006 ليعيد الأمل لها، واستعدت وانتظرت الافراج عنه، إلا أن الصدمة كانت كبيرة عليها حينما تمت الصفقة في أكتوبر عام 2011 ولم يكن نجلها ضمن المفرج عنهم.
وتقدمت العجوز بالعمر وهرمت، لكنها لم تفقد الأمل، فكانت دائمة التفاؤل، فجاءت الافراجات عن أسرى ما قبل أوسلو في إطار المفاوضات السياسية عام 2013. والتزمت سلطات الاحتلال بالإفراج عن ثلاث دفعات، وكان اسم "فارس" مدرجا ضمن الدفعة الرابعة والأخيرة والتي كانت تضم (30) أسيرا وكان من المفترض أن يفرج عنهم في آذار/ مارس من عام 2014. إلا أن سلطات الاحتلال وكعادتها نكثت الوعود وتهربت من التفاهمات ولم تلتزم بما وقعت عليه، فأبقتهم في سجونها، وأبقت "فارس" في زنزانة لا يرى فيها الضوء، ولم تخرج والدته من عتمة بصرها، إلى ان فارقت الحياة في أيار/ مايو من عام 2017.
اتصلت بي مراراً، وتحدثت إليها كثيرا، وبعد كل محادثة كنت أشعر بالعجز أمام معاناتها وصرخاتها، فيزداد وجعي ويتفاقم ألمي. والتقيتها مرات عدة، وزرتها في بيتها أكثر من مرة، وفي كل لقاء أو زيارة كنت أراها تحمل صورة ابنها السجين وتحتضنها وهي لا ترى بعينيها، لكنها وبإحساس الأمومة تراه في قلبها، أملا في أن يفرج عنه وتحتضنه بالفعل، لكن قدر الله كان نافذا أن تلقى ربها قبله.
رحلت أم فارس الكفيفة قبل أن تُبصر النور فتراه، أو أن يُفرج عن ابنها فتضمه الى صدرها وتحتضنه. وبعد أقل من عامين لحق بها فارس المُبصر وهو في زنزانة معتمة دون أن يتمكن من رؤية قبرها وقراءة الفاتحة بجانبه.
بقلم/عبد الناصر عوني فروانة
عضو المجلس الوطني الفلسطيني
8-2-2019