شكلت مسيرات العودة وكسر الحصار, وهي تدخل أسبوعها السادس والأربعين ,مساراً وطنياً بإمتياز تجاوزت من خلالها مخططات تحييد أهل غزة عن الهموم الوطنية , وإشغالهم بالأزمات الحياتية التي يراد منها أن تسيطر على مساحة التفكير الآني والمستقبلي وخاصة لذا أجيال الشباب الفلسطيني , وإبعاد ذلك الشباب عن أي محاولة للتفكير في قضيته الوطنية ووسائل مقاومة الإحتلال والإنعتاق من براثنه الآثمة , هذه هي بوصلة التفكير الوطني الذي يراد لها أن تنحرف لصالح المشاريع المشبوهة والتطبيعية التي تهدف لطمس القضية الفلسطينية وشرعنة الإحتلال الصهيوني والإعتراف به .
من مقتضيات صفقة القرن الأمريكي , تشويه المقاومة ووسائلها المتنوعة الشعبية والعسكرية ,وفرض حالة من الإستسلام للمخطط الأمريكي , التي بدأت أول فصولها بإعتبار القدس المحتلة عاصمة للكيان الصهيوني , ووقع هذا الحدث الخطير دونما مقاومة تذكر عربيا وإسلاميا , إلا على حدود قطاع غزة المحاصر, حيث كتب الدم الفلسطيني القاني رفضه الواضح للقرار الأمريكي المعادي لشعبنا وقضيته العادلة ,وحتى تمرر صفقة القرن يجب توفير الهدوء الميداني, بمعنى أن تقتل الضحية وتسلخ بلا صراخ أو حراك , وهناك من يعمل على توفير هذا المناخ بحرصه على منع المقاومة أن تقوم بدورها في الضفة المحتلة ومحاصرتها وخنقها في غزة.
أمام المؤامرة التي تتعرض لها قضيتنا , لا تكون المقاومة حركة تجميلية لأهداف حزبية كما يروج البعض, وعلى وقع شدة إنغراس أنياب التهويد في القدس والضفة لا يكون التمسك بالثوابت نزهة ربيعية , بل مواجهة حقيقية أمام منظومة متوحشة قاتلة, فرضاً علينا أن نقاومها , وقبحا أن نساومها أو ننهزم أمامها , فهي تسعى إلى أكل القصعة الفلسطينية , وإلتهام ما تبقى من بقايا حية في الجسد الفلسطيني , تُذكر بأن هناك شعب لهذا الوطن السليب .
مسيرات العودة وكسر الحصار , كانت ولازالت خياراً جماهيريا بالدرجة الأولى, ودليل ذلك هذا النهر الجماهيري المتدفق بلا توقف في مسيرات العودة , ونحن على إعتاب إكتمال عامها الأول , حيث نشهد مشاركة فئات متنوعة من الشعب الفلسطيني في غزة بلا كلل أو ملل , بلا خوف أو وجل , بلا تعب أو هزيمة , يستمرون في كل جمعة بالتحرك سيولاً بشرية تزاد في كل جمعة ولا تنقص , وهذا يكشف لنا عن إيمان عميق بالفكرة , وتمسك بأهدافها والإستعداد للتضحية من أجل تحقيقها , ولوكان الأمر غير ذلك لوقع الإنهيار وفشلت المسيرات.
لاشك أن البعض يحاول التشكيك ويمارس طقوس التشويه في إطار الحرب النفسية والهجمة المضادة , وإشاعة أجواء الإحباط حول نجاعة عملية نضالية تراكمية كمسيرات العودة في تحقيق الأهداف الوطنية , وقد بدأ الهجوم مبكراً على مسيرات العودة بإعتبارها نموذجاً يتصادم مع النهج السياسي الذي يرفض مقاومة الإحتلال ومستوطنيه ولو بالحجر , يستغل هؤلاء إرتقاء الشهداء من أجل إدانة الضحية وجلدها بألسنة حداد وتحميل المسيرات والمشاركين فيها المسؤولية , وإسقاط أي مسؤولية عن كاهل الإحتلال المجرم.
الدماء التي تسيل والأرواح التي ترتقي عبر تاريخ نضالنا الوطنية ومن ضمنها محطة مسيرات العودة, غالية ولا تقدر بثمن , وتسقط أمام عظمتها كل الإعتبارات والحسابات الضيقة, طالما كان الشهداء مخزونا إستراتيجياً وطنياً في مواجهة المخاطر والإستهدافات للوطن والقضية , في كل الثقافات شعوب العالم للشهداء قدسية لا يمكن لأحد أن يجرأ على المساس بها , فمال بال البعض يلوك لحمهم بين أنياب حقده أو أضراس جهله , فالشهداء مناعتنا الوطنية من إختراق فيروسات التهويد والعبث بهويتنا الفلسطينية .
لا تبكي على الشهيد وتلعن طريقه ، تلك هي دموع التماسيح ، ذهب الشهيد طربا على عزف نشيد الواجب ، ولحن تضحيته لن يعكره نهيق المخادعين ، جلست على مقعد إبن سلول تهزأ بهم وتسخر من صنيعهم ،فما وهنوا من كيدكم وما استكانت عزائمهم ، فضح حقدكم إدعاء حرصكم، كفوا مكركم عن الشهداء الأتقياء ، علمنا التاريخ وهو لا يكذبُ أن الشهداء رايات للهدى ، بهم تعرف دروب العزة ، تخجل حروف اللغة عن قدحهم ، وتهرب العبارات عن الذم فيهم ، من حرص عليهم سلك طريقهم، فهم الكرام فازوا بالإصطفاء .
هذا الدماء المباركة كمنبتها أرضا وإنسان , نزفها لن يكون ترفا , تلك الدماء توقد مرجل الحق جمرا , ونداء الثأر يولد من أرحام الغضب , تغيب الشمس ويسكن الحزن مخيماتنا ولن يطول, سيببدد الفجر العويل فرحا , ويسألونك متى هو قل عسى أن يكون قريبا.
بقلم/ جبريل عوده