قضايا الفساد ليست مرتبطة بدولة أو قومية معينة، بمعزل عن حجم الحريات والحياة الديمقراطية التي تعيشها دولة ما، إنما الاختلاف هو بحجم الشفافية والفساد ومقاومته، فمثلاً المستشار الألماني السابق "هيلموت كول" وظّف 2 مليون مارك آنذاك لصالح حزبه الذي يصب لصالح الدولة، ولغاية اليوم تعتبر هذه القضية "لهلموت كول" وصمة عار في تاريخه السياسي، رغم أن سياسته كانت سبباً رئيساً في تقدم ألمانيا على مدار 16 عام من عمله كمستشار. والأمثلة كثيرة لمثل هذه القضايا في الدول المتقدمة.
ونحن اليوم بصدد قضية فساد البطل الأول فيها هي الحكومة الأردنية بجلّ مؤسساتها القيادية.
دخل رجل الأعمال العربي عوني مطيع في بداية 2004م إلى الأردن بعد إنهاء عمله في العراق وسوريا في تجارة الدخان المشروع وكثيرها غير المشروع، واستطاع بذكائه وكثرة ماله وجشع الكثير من رجالات الحكومة الأردنية آنذاك، بدءاً من أكثر من رئيس وزراء لأكثر من حقبة ووزراء ومدراء مخابرات وأمن عام ورؤساء مجلس البرلمان والأمة ومدراء الجمارك لأربع حقب متتالية وموظفين في الديوان الملكي في مناصب قيادية وبرلمانيين تسخيرهم وتوظيفهم لخدمة مشاريعه الهدّامة.
باشر عوني مطيع وشريكه سلامه سلمان العلمات ممارسة نشاطهم غير المشروع داخل المملكة بتأسيس الشركات بعضها وهمية من خلال تزوير وإنتاج السجائر المقلّدة والتبغ والمعسل وتقليد الماركات التجارية العالمية والتهرّب الضريبي الذي يتجاوز ملايين الدولارات بغطاء من رجالات الدولة وشراكتهم من خلف الكواليس.
قضية عوني مطيع هي أكبر شبكة فساد عرفها تاريخ الأردن من حيث اشتراك كم هائل من رجالات الدولة وقطاعات مختلفة بين رؤساء وزراء ووزراء ومؤسسات حكومية وبوليسية ومخابراتية وبرلمانية على مستوى القرار الأخير والأول.
لقد كشفت السنين الماضية عن كثير من الأشخاص الذين ساهموا مساهمة قوية في تراجع الإقتصاد وتفاقم سرقات مخصّصات الدولة وبيعها بإسم الخصخصة حيناً، إلّا أنّ هذه الأخيرة هي التي تبيّن فيها موطن الفساد الكامن للأسف في جلّ رجالات الدولة والمؤسسات الحكومية. فقد بيّنت لائحة الاتهامات الأخيرة التي قدّمت 54 متهم بين أشخاص وشركات، والملفت للنظر أن الأشخاص هم أصحاب الشركات أنفسهم وعددهم 21، والتي فصل القاضي بينهم وبين مؤسساتهم، فاعتبر الشخص متهم والشركة متهم آخر. هذا مع كشف الحقائق للقاضي بالوجه الشرعي للشركات ونشاطها باعتراف أصحابها والتي تجاوز عددها الأربعين في كثير القطاعات الوهمية بين شركات مستلزمات طبية ومواد صحية وشحن وصناعة أسمدة طبيعية... وإلخ.
وكشفت لائحة الاتهام عن عدة حسابات بنكية في البنك الأهلي الأردني بإسم شركة الغرب وشركة التاج الذهبي والتي تدار فيها جميع التحركات المالية المتعلقة بتسويق الدخان والتبغ، استيراده وشراء السلع الأولية والضرورية وخطوط الإنتاج والعبوات الموسومة بعلامات تجارية مقلّدة وأيضاً تسهيل الكفالات البنكية والجمركية لإيداع الأموال الناتجة عن ترويج الدخان غير المشروع لتحقيق الصفة الرسمية لكسب المبالغ الطائلة جراء الإتجار ومعها عملية غسيل الأموال بفواتير بأسماء شركات في الخارج، بالإضافة إلى تسهيل القروض لوجود أصول على الأرصدة.
الحقيقة أنّنا نتحدث هنا عن لائحة المتهمين وشركات يعود أصلها لشخص واحد، ألا وهو عوني مطيع، فقد سجّلها بأسماء أبنائه وأبناء عائلته واصدقائه وأبنائهم وموظفيه، فالأسماء الرسمية على الأوراق لأصحاب الشركات ما هم حقيقةً غير موظفين يتقاضون رواتب من المالك الحقيقي المؤسس عوني مطيع.
أسئلة كثيرة وثغرات وردت في لائحة الاتهام، لا أعرف كيف لقاضٍ أن يتجاوزها أو لا يستدعي مدراء مؤسسات على الأقل للمساءلة، رغم منطقية اشتراكهم في هذه القضية بشكل صريح، أهمّها ما قبل 2014م، حيث أن القاضي لم يتناول أحداث القضية من فترة التأسيس 2004م حتى عام 2014م، فقط على سبيل الطرح مثلا مديرية الجمارك وهي العنصر المهم لتسويق الدخان المقلّد.
على سبيل المثال هذه هي الحقب التي استثناها القاضي من المساءلة:
مدراء مديرية الجمارك من 1/6/2005م لغاية 02/05/2007م والفترة بين 13/05/2008م حتى21/10/2008م والفترة 22/10/2008م حتى 08/06/2013م والفترة بين 24/10/2013م وحتى 29/10/2015م.
أليس من وجهة نظر القانون وجوب مطالبة مدراء مديرية الجمارك وموظفيها القياديين للتحقيق؟
في الشارع الأردني إذا أساء أحدٌ في إحدى المقاهي الشعبية أو المطاعم البرجوازية للعائلة الحاكمة أو الحكومة على حد سواء يُطلب في اليوم التالي للمخابرات. فكيف بتسويق أكثر السلع رواجاً الدخان، وتهريبها للسوق المحليه دون دفع الرسوم والضرائب المستحقة مع تسهيل الاعفاءات الجمركية دون وجه حق ودون أن تتحرك دائرة الجمارك أو المخابرات أو الضريبة أو مؤسسة المواصفات والمقاييس؟ وقد يكون إقصاء رئيس مجلس الأعيان الأردني السابق آنذاك عبد الرؤوف الروابدة في شوال/أكتوبر 2015م بعد عامين من تسلّمه مهامه بطريقة رَّثّة وقبل إنهاء مدّته المقرّرة كما لم يحدث من قبل، هو جواب على كثير الأسئلة اليوم.
نحن هنا نتحدث عن شركات تبغ وسجائر ضخمه أسّسها عوني مطيع وبعضها مجهّز داخل المنطقة الحرّة في الزرقاء وأخرى في الرصيفة عدا عن المخازن والأراضي التي أُستأجرت بإسم عوني مطيع وشركاءه وموظفيه لزراعة التبغ، طبعاً بشراكة كثير رجال الدولة.
ولقد أدخلت الماكينات المخصّصة وخطوط الإنتاج بإعفاءات جمركية أيضاً، رغم وجود ممانعات أحياناً من ضباط الجمارك لعدم خضوعها للمواصفات في عمان أو في العقبة. وهذا مثالٌ على فترة فساد من الطراز الرفيع.
فهل من المعقل تسويق سلعة على مدار 14 سنة بمبالغ تجاوزت مليارات الدولارات إن لم يكن وراءها شبكة متنفذين في الحكومة من الدرجة الأولى؟ كما بيّنت اللائحة تحصيل 2 مليار دينار من بعض المتورطين في هذه القضية.
هذه القضية أظنّها تتجاوز سلطات رئيس الوزراء الحالي لتصل الى مقربين من القصر الملكي بحيث يصعب على الرزّاز مساءلتهم. فإذا كان القضاء نزيهاً كما يسوّق له، فلماذا لا يُستدعى جميع من شغل المناصب القيادية المعنية بالرقابة الأمنية والتسويقية خلال 14 عام؟
مشروع التطهير الحالي ما هو حقيقةً إلا حفظ ماء الوجه بعد أن كُشف الأمر للشارع والبرلمان ووصل لجلالة الملك، فصار من الضروري تقديم كبش فداء من القياديين في الدولة آنذاك وهم لا يتجاوزون الثلاثة أشخاص، الوزير السابق منير عويس ومدير الجمارك وضاح الحمود و وهب العوامله مستشار لرئيس مجلس إدارة شركة المناطق الحرة والتنموية وبعض من أفراد الأمن والجمارك والتي تتراوح رتبهم بين فرد لتصل لمقدم لإقناع الأردنيين بمقاضاة المتورطين، هذا في الفترة التي كشف أوراق القضية البرلماني مصلح الطراونة وقدّمها تحت القبة.
الأمر زاد المواطن إحباطاً، هذا لأن الخداع بدا بجلاء لإستثناء القضاء مديرية الأمن العام والمخابرات وسلطة الديوان الملكي وكثير من مدراء مؤسسات الدولة التي من شأنها كشف التورط منذ نشاته لولا تورطهم. والأكثر احباطاً لائحة الاتهام المكونة من 65 صفحة والصادرة عن العقيد القاضي العسكري مدّعي عام محكمة أمن الدولة فواز العتوم بتاريخ 2019/2/6م والتي تَعرض في خمسة صفحات أسماء المتهمين وعرض التهم في ثلاثة صفحات وشرح الوقائع بتفصيل ومحادثات وأسماء شركات وأشخاص بين ضباط وموظفين ومتهمين في خمسة وأربعين ونصف الصفحة وعرض الاثباتات في عشرة صفحات ونصف، وطلب المدّعي العام في صفحة.
الملفت للنظر أثناء قرأتي اللائحة هو الشرح المفصّل للحقبة بين 2015م حتى كشف القضية في شوال/أكتوبر 2018م، بحيث وردت كلمة "وصلت قضية الفساد أوجها بين 2015م و 2018م" أكثر من عشر مرات، في ذات الوقت الذي لم تطرح الحقبة من بداية قضية الفساد بدءاً من عام 2004م حتى عام 2014م، وكأن القانون لا يطرح قضايا الفساد إلّا عند بلوغه الذروة!
فإذا بلغ الفساد أوجه بين 2015م و 2018م فأين الجزئية من بداية القضية والمرحلة ما قبل الذروة؟ وما هو موقف القانون تجاه رئاسة الوزراء والوزراء ومدراء المؤسسات والدوائر الحكومية إبّان الفترة غير المطروحة في لائحة الاتهام؟
أسئلة كثيرة تجنبها القضاء أم أُجبر على عدم التطرق إليها.
أحمد سليمان العمري