ما بين وارسو وسوتشي وميونخ

بقلم: فادى عيد

فى مؤتمر وارسو لما يأتى المنتظر لدى شخص ترامب بقدر ما جاء لزوج ابنته الاسرائيلي جاريد كوشنير، فللمرة الثالثة على الاقل يقول نتنياهو "نحن نصنع التاريخ" الاولى كانت بعد زيارته لسلطنة عمان، والثانية بعد زيارة رئيس تشاد لتل أبيب، واليوم الثالثة بعد هرولة مبعوثي ممالك الخليج لمصافحة نتنياهو.
نعم لم يخرج من وارسو رابح الا نتنياهو، الذى يستغل كل مشهد ويسوقه فى اعلام بلاده جيدا قبل الانتخابات القادمة.


وبالتزامن (وفى نفس التوقيت عن عمد) كان بوتين يجمع اردوغان وروحاني فى سوتشي دون أي طرف عربي كالعادة، لبحث الجديد بسوريا، او بالادق ما الجديد لدى الامريكي والاسرائيلي ضد سوريا، وفى ظل التصعيد المتزايد بسرعة ضد ايران، سواء كان داخل حدودها أو خارج حدودها.


مصر لم تبتلع طعم مايك بومبيو عندما جاء مؤخرا للقاهرة ولكلامه فى الجامعة الامريكية، فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ولم تحضر مصر لفخ وارسو، وارسو التى جاء ما بها وما حولها من حوارات جانبية وزيارات سرية بين ممالك الخليج واسرائيل على غرار  مراسلات "الحسين – مكماهون"، والتى جائت كتمهيد لخروج المنطقة من الاحتلال العثماني للاحتلال الفرنسي والانجليزي.

وفضلت مصر الانتقال من افريقيا الى اوروبا، من رئاسة الاتحاد الافريقي لحضور مؤتمر ميونخ للامن، كي يكون السيسى أول رئيس خارج أوروبا يلقى كلمة بالجلسة الرئيسية منذ تأسيس المؤتمر عام 1963م، وهو أهم مؤتمر أمني على الاطلاق.


غالبا ما يطرح مستقبل دول وتحسم ملفات هامة فى مثل تلك المؤتمرات، ففي "بون" الالمانية 2001م تم طرح كارت "حامد كرزاي" ومن بعدها جائت الحرب على افغانستان، ومنذ سنوات بمؤتمر "ميونخ" تم طرح كارت حامد كرزاي ليبيا المدعو "فايز السراج"، وبالفعل جاء ما جاء على يد حكومة الفرقاطة، اليوم الاوضاع على الميدان الليبي تغيرت، ومن كان مجمد فى افريقيا هو الان رئيسها، وسيكون حاضرا فى مشهد غير معتاد بميونخ.

وللعلم هناك دول ستنتقل لها كورة النار، دول لم يكن أحد يتوقع أن يحصل بها ذلك، وهناك دول ابواب الفتنة والحرب الاهلية تقف على بابها أو بالادق على ابواب انتخاباتها الرئاسية.

وما أشبه الليلة بالبارحة ولكم ذلك المشهد، فمع بداية الخمسينات كانت الولايات المتحدة تعمل على صنع نظام شرق أوسطي تستطيع فيه دمج اسرائيل، بجانب صنع أنظمة تابعة لها كي تخوض حرب بالنيابة عنها ضد الاتحاد السوفيتي، وفى مارس 1953 جاء وزير خارجية امريكا جون فوستر دالاس الى القاهرة، لفهم عقلية النظام الجديد بمصر بعد ثورة يوليو، وهنا قال السفير الامريكي بالقاهرة لوزير خارجية بلاده بأن الرجل القوى فى النظام الجديد هو شابا يدعى جمال عبد الناصر وليس محمد نجيب، فطلب دالاس عقد أجتماع معه، وعلى الفور عمل السفير الامريكي على عقد ذلك الاجتماع، حتى أجتمع كلا من وزير الخارجية والسفير الامريكي وجمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، وعرض وزير الخارجية الامريكي على عبد الناصر الانضمام لحلف ثلاثي يضم كلا من أنقرة (الاكثر تحضرا بين العواصم الاسلامية) وكراتشي (الاكثر كثافة سكانية بين العواصم الاسلامية) والقاهرة (الاكثر عراقة بين العواصم الاسلامية).
فسأله عبد الناصر: وما سبب إنشاء ذلك الحلف، وسيواجه من؟
فأجابه دالاس قائلا: بتأكيد ضد الخطر الشيوعي.

فرد خالد العرب كيف تريد أن أرى خطراً مزعوماً على مسافة أربعة آلاف كيلومتر، ولا أرى خطراً حقيقياً على مسافة مئة كيلومتر (اسرائيل)؟

وهنا أنتهت مهمة دالاس بالفشل فى مصر وبعدها عزمت الاستخبارات البريطانية والامريكية على التخلص من جمال عبد الناصر سواء على يد أذرعها فى الداخل (جماعة الاخوان المسلمون) أو شن حروب ضارية على مصر من كافة الجهات.

ولم ييأس وزير الخارجية الامريكي وقتها من صنع تحالف شرق أوسطي يخضع لواشنطن، حتى جاء البديل للقاهرة فى بغداد، وتم إنشاء “حلف بغداد” عام 1955 والذى ضم بجانب المملكة المتحدةالعراق وتركيا وإيران وباكستان، ولكن كان عمر “حلف بغداد” قصيرا، بعد أن أسقط عبد الكريم قاسم النظام الملكي بقيادة نوري السعيد بعد ثورة تموز 1958 التى أطاحت بالمملكة العراقية الهاشمية التي أسسها الملكفيصل الأول تحت الرعاية البريطانية.

وهنا أرسل بن غوريون مؤسس الكيان الصهيوني للرئيس الامريكي أيزنهاور رسالة يقول فيها “إنه لمن الخطأ الفادح أن تفكر الولايات المتحدة بإقامة حلف في الشرق الأوسط يرتكز على أي عاصمة عربية، إن الشرق الأوسط لكي يحظى بالاستقرار وبالولاء للغرب يجب أن يرتكز على ثلاث عواصم دون غيرهم، وهم أنقرة وتل أبيب وأديس بابا”.

ولم يخيب دوايت أيزنهاور رأي بن غوريون، وفى العام التالي من أنهيار حلف بغداد أي فى عام 1959 تم توقيع أتفاقية “الرمح الثلاثي” بين اسرائيل وتركيا وايران الشاه واثيوبيا، وهي الاتفاقية التى أستخدمت فيها اسرائيل كلا من ايران واثيوبيا واسرائيل كرمح فى وجه الامن القومي العربي، فمن خلال تركيا سيطرت اسرائيل على نهر دجله والفرات للتحكم فى العراق وسوريا، ومن خلال أثيوبيا هددت اسرائيل أمن مصر والسودان المائي بنهر النيل، وفى عام 1996تم تجديد الاتفاقية مرة أخرى لضمان تطويق الوطن العربي ليس فى موارده المائية فقط بل وتقويض نفوذه السياسي والاقتصادي أيضا.

فادي عيد
الباحث والمحلل السياسي بشؤون الشرق الاوسط
[email protected]