عطفا على حديثنا السابق تحت عنوان (هل تستطيع قوى اليسار جمع شتاتها في التجمع الديمقراطي الجديد؟!) فقد دخل التجمع العتيد في اختبار مبكر ثبت فيه من جديد عمق أزمة اليسار الفلسطيني، وهو موضوع المشاركة في حكومة فصائلية، يجري الحديث أنها ربما تكون بقيادة شخصية بارزة من حركة فتح؛ ومع أن التجمع يعلن أنه ليس من الضرورة لاستمراره ووجوده، أن تكون الفصائل المنضوية تحته في حالة توافق على كافة القضايا السياسية، وأن تباين وجهات نظرها حولها وارد وطبيعي، فإن مسألة كهذه وكبداية اختبار حقيقي للتجمع في مرحلة التأسيس يفترض التوافق التام حولها كي يكون التجمع فعلا ظاهرة جديدة في الأداء السياسي، وليس مجرد تظاهرة إعلامية؛ فقد أعلنت(ج.ش و ج.د) والمبادرة رفض المشاركة ولم يحسم حزب الشعب ولا فدا أمرهما تماما.
وبعيدا عن هذه المسألة الآنية التي هي قرينة ما نتحدث عنه من أزمات اليسار، فلنستعرض في هذا المقال والذي يليه بعضا من تلك الأزمات التي حرمت اليسار من المنافسة وساهمت في إبقاء ثنائية القطبين أمرا واقعا:-
أولا:الأيديولوجيا وعدم المراجعة
كنت أسير في الشارع قبل بضع وعشرين سنة، فوجدت بيانا يعلن عن تغيير اسم (الحزب الشيوعي الفلسطيني،حشف) إلى (حزب الشعب الفلسطيني) كان هذا بالتزامن مع انهيار المعسكر الشيوعي، وضعف وتراجع الاتحاد السوفياتي الذي سيضاف إليه وصف(سابقا) ولكن هل المشكلة تتوقف عند الأسماء فقط، مع أهمية الأسماء وتأثيرها النفسي والاجتماعي وحتى السياسي؟
فقد عاش اليسار حالة (التأرجح الأيديولوجي) كما في وصف الكاتب(ميشيل شحادة)، ولا يتسع المجال لاستعراض تاريخ فصائل اليسار كافة، ولكن مما لا شك فيه أنها ربطت نفسها ومصالحها بالمنظومة السوفياتية، وهذا ديدن اليسار العربي عموما حتى قيل بأنه حين تمطر السماء في موسكو يرفعون المظلات في بغداد ودمشق والخرطوم وغيرها حتى والشمس ساطعة!
وكان لفصائل اليسار الفلسطيني أيديولوجيا(منظومة فكرية ومفهوم خاص) تميزت بها عن حركة فتح التي تجنبت الأدلجة، مع أن مؤسسيها كان منهم الإسلامي والقومي واليساري، مع إشارة المؤرخين أن الإسلاميين كانوا عصب نواة فتح التأسيسية بدلالة البيانات الأولى.
بينما لو جئنا إلى (ج.ش) وهي أكبر الفصائل اليسارية وأقواها، والفصيل الثاني في (م.ت.ف) فقد انبثقت عن حركة القوميين العرب، وكان لها توجه أيديولوجي يستند إلى الماركسية اللينينية، وكانت انطلاقة (ج.ش) بعد سنتين من انطلاقة حركة فتح(11/12/1967م).
وما لبثت (ج.د) أن انشقت عن الشعبية، حاملة ثقلا زائدا من الأدلجة، في توجه سيصطدم مع طبيعة القضية وطبيعة المجتمع الفلسطيني، وسيظهر لاحقا أن ما حظي به اليسار من دعم كان مرده إلى موسكو أو بكين وليس إلى دعم شعبي حقيقي.
وتبني أيديولوجية معينة دون مراعاة لطبيعة المجتمع وإرثه الثقافي، مثلما فعل الصينيون ويسار أمريكا اللاتينية في تعاطيهم مع الماركسية فنجحوا نسبيا، هو أمر لا شك له مردود سلبي واضح.
فالشعب الفلسطيني غالبيته من المسلمين؛ وليس هذا فحسب بل إن المسجد الأقصى جزء من عقيدة المسلمين، وبالتالي ثمة بعد ديني لا يمكن تجاهله باستيراد فكرة من الخارج، حتى لو لقيت نجاحا في مكان ما من العالم.
والاتحاد السوفياتي سارع إلى الاعتراف بإسرائيل فور إعلان بن غوريون عن تأسيسها في 1948 ومع أنه قطع العلاقات مع الكيان العبري بعد النكبة الثانية في حزيران 1967 هو وسائر المنظومة الاشتراكية(عدا رومانيا) ولكنه في النهاية ليس عدوّا للحركة الصهيونية، وإن اختلف معها أو كان هناك تنافس بينه وبين الولايات المتحدة، أي يمكن اعتباره حليفا جزئيا مؤقتا وبحذر شديد، لا الارتهان الفكري والسياسي له.
وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي تحولت بعض الشرائح اليسارية إلى العمل الأهلي المموّل من جهات غربية، كانت على عداء وتنافس مع الاشتراكية، وهي رأسمالية بامتياز، علما بأن هذا المسار قد تكثّف في صفوف اليسار في مرحلة ما بعد أوسلو(1993) وهو ما يصفه الكاتب والباحث(حيدر عيد) بأنه تحوّل نحو (اليسار الأسلوي المتأنجز) خلافا لحال اليسار قبل تلك المرحلة(أنظر مقالة حيدر عيد "في نقد اليسار الفلسطيني الستاليني" منشورة في صيف 2014).
وقد زاد الطين بلة المراهنة على قوى اليسار الصهيونية، وتردد أن يساريين يقولون(إذا فاز في الانتخابات راكاح سنلق السلاح) وراكاح هو الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وقد تكون العبارة ملفقة وتدخل في إطار المناكفة، ولكن السلوك لم يكن يشير إلى عكسها، وكأن الصراع مع الصهيونية صراع سياسي أو أيديولوجي وهو في حقيقته صراع وجودي تماما.
على كل استمرت فصائل اليسار في العمل بمستويات مختلفة، ولم تعمد إلى مراجعة ضرورية للأيدلوجيا، تستحضر الصراحة وتخرج بخطاب جديد، خاصة مع صعود التيار الإسلامي من جهة، وانهيار الاتحاد السوفياتي وتداعيات ذلك الانهيار على اليسار الفلسطيني من جهة أخرى، وحتى اللحظة لم توجد مراجعة جادة في هذا السياق.
ثانيا:تراجع العمل العسكري
تميزت (ج.ش) بالذات بتنفيذ عمليات نوعية جريئة، وقد استطاعت أن تضم إليها في الحيز العملياتي-التنفيذي شخصيات بارزة غير عربية وغير فلسطينية مثل عضو الجيش الأحمر الياباني(كوزو أوكاموتو) والفنزويلي(راميريز سنشيز المشهور باسمه الحركي كارلوس) وتميزت عمليات (وديع حداد) كثيرا وهو الذي جند (ليلى خالد) كما أفادت في لقاءات إعلامية لخطف الطائرات ودربها على تلك المهمات الخطرة، والتي جعلت من ليلى أيقونة، مع أن (ج.ش) تركت هذا الأسلوب بعد أسر ليلى خالد.
ولكن العمل العسكري تراجع بفعل الأزمة المالية التي سببها التغير الدولي وما أصاب المنظومة الشرقية دوليا، وفقدان/تراجع الدعم الإقليمي كنتيجة لهذا التغير، وتداعيات الهيمنة الأمريكية التي تمكنت من بلورة صياغة دولية تلاحق العمل المقاوم المسلح تحت ذريعة (مكافحة الإرهاب) وبقي العمل العسكري للجبهة في الداخل الفلسطيني محدودا، وحاليا هو يتموضع في قطاع غزة، ولا نشاط عسكري من الخارج كما في عقود خلت.
وفي فترة ما بعد أوسلو الذي عارضته (ج.ش) ولغاية العام 2000 لم تنفذ الجبهة عمليات تذكر، مع أنها باركت عمليات حماس والجهاد الإسلامي، وهما الحركتان المنفردتان بتنفيذ عمليات نوعية في تلك الفترة.
ولكن (ج.ش) في انتفاضة الأقصى نفذت عملية مميزة، تمثلت باغتيال وزير سابق متطرف حاقد هو (رحبعام زئيفي) وذلك ردا على قيام شارون باغتيال أمين عام الجبهة أبو علي مصطفى، وهذا رد غير مسبوق، ولم تقم حتى الآن أي حركة فلسطينية بمثله.
ولكن وفي صيف 2007 نفذت قوات الاحتلال حملة عدوانية داخل آخر المعاقل التي تنشط بها الجبهة عسكريا في الضفة الغربية، أي مخيم عين بيت الماء، غرب مدينة نابلس، وتم اغتيال واعتقال النشطاء المقاومين، وصارت عمليات (ج.ش) ذات طابع فردي ومتباعدة.
وقام الموساد الصهيوني باغتيال أحد كوادر الجبهة في بلغاريا وهو (عمر النايف) في مثل هذا الشهر سنة 2016 وقد توعدت الجبهة بالرد والانتقام، ولا يمكن أن نجزم هل التأخير في الرد على الجريمة يعود لدواع أمنية ولوجستية، أم لوجود قرار غير معلن بعدم الرد أو تأجيله لأجل غير مسمّى، والاكتفاء بالتهديد، لاعتبارات وحسابات سياسية؟ الإجابة متروكة للزمن.
ونلاحظ أن الحديث عن العمل العسكري يكاد يقتصر على (ج.ش) أما (ج.د) التي كان لها بعض النشاط العسكري، فهي ما زالت تتغنى بعملية معالوت-ترشيحا التي نفذتها سنة 1974 وقد عارضت (ج.د) أوسلو ولكنها لم تقم بعمليات بعده، وعندما اندلعت انتفاضة الأقصى لم يكن لها ذلك النشاط المميز، ويبدو أن طبيعة قطاع غزة تفترض أو تحكم أن يكون لكل تنظيم سياسي ذراع عسكري، فثمة وجود لذراع مسلح لها(كتائب المقاومة الوطنية) هناك.
أما حزب الشعب فهو لا يتبنى العمل المسلح نهائيا، ويؤمن بالكفاح السياسي وطرح القضايا الاجتماعية، ومثله المبادرة وفدا وغيرها.
ونكمل حديثنا عن أزمة اليسار الفلسطيني في المقال القادم بمشيئة الله تعالى.
،،،،،،،،،
بقلم/ سري سمّور