في حمى الحملات الانتخابية في إسرائيل، لم يجرؤ أي من المرشحين والمتنافسين على قيادة الدولة العبرية، على ذكر جملة "السلام مع الفلسطينيين".
ذلك ليس في الحملة الراهنة فقط، وإنما في جميع الحملات السابقة؛ خصوصاً منذ توقيع اتفاق أوسلو.
أبرز الضحايا وأولهم، هو رئيس الوزراء إسحق رابين، الذي يعتبر من القادة التاريخيين في إسرائيل، ويليه في تراتبية القيادة التاريخية شمعون بيريز، العراب المباشر لـ"أوسلو"، والمُنظِّر الأهم للسلام مع الفلسطينيين؛ حيث أوسعه الإسرائيليون "إسقاطاً" في معظم الانتخابات التي تقدم إليها. ويليه في الأهمية كذلك رئيس الوزراء إيهود أولمرت، الذي لا يزال الإسرائيليون يستخدمونه دليلاً على أنهم قدموا مبادرات سلمية للفلسطينيين ولم يقبلوا بها. هذا "الأولمرت" الذي خلف أرييل شارون في القيادة، أُدخل السجن، حتى صارت أغلى أمنياته أن يخرج منه ولو قبل شهور من انتهاء مدة محكوميته. وفي هذه الأيام قتلت السيدة تسيفي ليفني معنوياً، وبصورة نهائية، حين استحال عليها وعلى حزبها عبور نسبة الحسم في الانتخابات القادمة. وكادت هذه السيدة في وقت ما تشكل الحكومة في إسرائيل لولا الاصطفاف اليميني الذي أنقذ نتنياهو وخلَّده رئيساً للوزراء.
وإذا ما تجاوزنا الأشخاص النجوم ورجال المواقع الأولى، إلى الهيئات والمؤسسات، فقد كان حزب العمل، مؤسس الدولة وصانع أهم إنجازاتها، أبرز الضحايا، فبعد أن تبوأ القمة عقوداً، وبدا كما لو أنه ثابت من ثوابتها، يصارع الآن من أجل بلوغ المرتبة الخامسة أو السادسة في طابور المتنافسين على عضوية الكنيست.
عندما يراجع المرشحون للفوز بعضوية الكنيست سيرة هؤلاء النجوم، وكلهم من أقطاب الحياة السياسية في إسرائيل، وكيف كان حديثهم عن السلام ومجازفاتهم به، سبباً في تصفيتهم الجسدية أو المعنوية، فمن يجرؤ بعد ذلك على مجرد ذكر كلمة "السلام"، وإذا اضطر بعضهم لذكرها من قبيل رفع العتب، ورسم خط وهمي يميزه عن اليمين المتشدد، فإنهم يكبلون رؤيتهم للسلام بشروط تفرغه من المضمون، مع اختيار مفردات ربما تكون أكثر مرونة وحذراً.
لا أغالي لو قلت إن طرح برنامج غير حربي بشأن الفلسطينيين أضحى عملاً انتحارياً، لا يوفر لمن يجازف به إلا الاختفاء. ولهذا سقطت الفكرة التي راجت أيام "أوسلو الأولى" بعد أن اعتنقها آنذاك أكثر من نصف المجتمع الإسرائيلي، بما في ذلك العرب، لتنهض على أنقاضها فكرة مغايرة تماماً، قوامها التسابق على قمع الفلسطينيين، وإظهار من هو الأكثر فعالية في محاربتهم ومصادرة حقوقهم، حتى تلك التي كان معترفاً بها في زمن أوسلو، فأضحت الآن ساقطة تماماً من التداول.
لقد وقعت الحياة السياسية في إسرائيل تحت تأثير مباشر وفعَّال لإرهاب فكري شرس، وهذا الإرهاب الذي افتتحه في حقبة السلام قتل رابين أو إعدامه، فتح الباب واسعاً حتى أمام تغيير هوية الدولة العبرية، وما كانت تسوّقه كواحة وحيدة للديمقراطية في صحراء الشرق الأوسط.
حين أُقر قانون القومية في الكنيست، تراجعت الديمقراطية المدّعاة كثيراً إلى الوراء، وباعتراف شخصيات مهمة من اليمين واليسار، فتقدم الاتهام بالعنصرية، وصار يُسمع بوضوح من على المنابر الرئيسة في إسرائيل، حتى من قبل اليهود، إن لم يعجب القول العرب، ناهيك عن التغييرات الزاحفة بلا هوادة، والتي مست مكانة القضاء، وأسست لانحراف ثقافي يشكو منه أبرز الساسة والمفكرين والكتّاب. حتى الصحافة لم تنجُ من هذا الزحف، حين انتشرت في إسرائيل فضيحة نتنياهو - موزيس، فيما وصفت بصفقة "يديعوت" و"إسرائيل اليوم".
واقع الحال يقول إن الإرهاب الفكري المتعاظم الذي مورس بمنهجية وفعالية، أفرز أخيراً رأياً عاماً قوياً، أغلق أفواه الساسة وقطاع لا بأس به من صناع الرأي العام، فتشكل سد مرتفع يحول دون تداول فكرة السلام، وحتى المساواة مع غير اليهود. ومن يدقق يكتشف أن ترمب الذي لم يبقَ عليه إلا أن يقدم لنتنياهو شيكاً موقعاً على بياض، يراوده خوف من أن يكون واحداً من انتحاريي السلام، لو قدم اقتراحاً لا يعجب اليمين الإسرائيلي المتشدد والمتحكم والشرس، حتى في أميركا ذاتها.
خلاصة القول، إن المؤشر الأدق إلى ما آلت إليه الدولة العبرية في أمر تعاطيها مع السلام الفلسطيني والمساواة مع غير اليهود داخل إسرائيل، ليس فقط خلو البرامج الانتخابية من هذا البند؛ بل تسيد نتنياهو للنظام السياسي، وطول أمد بقائه على رأسه، رغم احتمال أكيد بأن توجه إليه لوائح اتهام في قضايا فساد تقصم الظهر في أي بلد آخر، ما يؤكد أن الحكاية في أمر السلام والمساواة ليست حكاية حزب أو قيادة؛ بل صارت حكاية مجتمع صار فيه الحديث في هذه الأمور هو الوصفة المضمونة للانتحار السياسي.
نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني