لا يكون تغير شكل الأماكن اعتباطاً ولا يمكن أن يتم التصرف بها دون تخطيط حضري ومكاني يستند إلى فلسفة ذات عمق معرفي وثقافي وغايات جمالية إلى جانب ذلك.
هذا أساس التخطيط السليم الذي يجعل من المكان فاعلاً في تشكل هوية المجتمع ولا يتم الاعتداء على مكوناته وفق أهواء المسؤول أو القائم على الشؤون البلدية أو الوزارية، أياً كان الشكل الذي يشرف على ترتيب المكان.
ويؤثر شكل المكان كثيراً بطبيعة ارتباط المواطن به، ويمكن تخيل أن بعض الأمكنة والشكل الذي اعتاد الناس رؤيتها فيه يؤثر بشكل أكبر في وعيهم عن المكان وعن صورته وبالتالي وعيهم عن صورتهم وتصوراتهم لأنفسهم.
أما العشوائية في التخطيط والنزق في التعامل مع شكل المكان فلا يعكسان إلا سلوكاً تخريبياً لا يرى أي أهمية للحفاظ على نسق ثابت في تطوير الهوية المحلية كجزء من الهوية العامة. الأماكن تشكل الناس. لا يبدو هذا القول فلسفة ولا طموحا إلا تعبيرات كبيرة بقدر كونه جزءا من الوعي المادي والروحي عن ارتباط الناس بالواقع الذي يعيشون فيه.
فالمرء حين يتذكر طفولته يتذكرها في سياق مكاني ثابت لا يمكن نزعها عنه كما سيبدو متعذراً استحضار تلك الطفولة بعيداً عن تفاصيل المكان الذي جرت فيه.
لذا فعادة ما نتذكر حين نرى المكان وربما أقوى تلك الذكريات هي تلك التي تنداح عند رؤية مهد وقوعها ومسرح حدوثها.
ويبدو فعل التذكر الأقوى أدبياً مرتبطا بالسابق حين يقول الشاعر "قفا نبك". المكان دلالة ارتباط الإنسان بما عاشه وبما يعيشه. كما أن تخيل صيرورة المكان يبدو جزءاً مهماً من تخيلاتنا عن المستقبل. لأن المستقبل ليس إلا تزاوج المتخيل مع الواقع، وفي كل الحالات فإن صورة المكان أساس في ذلك.
وعليه فإن عدم التعامل مع المكان بجدية يضر بارتباط الناس به وبتصوراتهم عن مستقبلهم ناهيك عن انتقاصه واعتدائه على قيمهم الجمالية. فأساس التعامل مع المكان قائم على الجمال وتصوراتنا عن الجمال الذي بدوره يتبلور ضمن نسق ثقافي حول تلك المفاهيم يرتبط أكثر بقيم أوسع وأعم لا يمكن حصرها بمادية المكان.
مرة أخرى التعامل بعشوائية في قضايا تخطيط المكان يضر بالمكان وبكل ما يرتبط به من دلالات في وعي الناس وفي تصوراتهم عن واقعهم ومستقبلهم. وربما الأهم أنه يهدم ماضيهم، لا يبقى لهم أي ارتباط بهذا الماضي. تخيلوا كيف تجيش نفوسنا بالبكاء حين نرى صور يافا وهي تربض على التلة فوق صدر البحر، أو نشاهد أسوار عكا وهي تقف بعناد لا تهاب موجه.
في كل الحالات لا شيء يضاهي أن تمشي في تلك الأماكن وتعيد نسج حكايات الألم والفراق. بينما قد تجتاحك مشاعر مختلفة وأنت تمشي بين ركام قرية أبادتها العصابات الصهيونية لكن أي مشاعر تلك حين تقف أمام باب بيت عائلتك لو ظل قائماً حتى اللحظة.
لهذا تسعى الشعوب للحفاظ على صورة المكان وعلى استمراريته. تخيل شكل المقهى الباريسي في لوحة فان كوخ الشهيرة، اللوحة التي خلدت شكل المقهى الفرنسي التقليدي.
لكن تخيل أنك وأنت تسير في باريس تشاهد عشرات من تلك المقاهي التي تشبه المقهى الذي رسمه فان كوخ قبل أكثر من قرنين من الزمن. لأن هناك حرصا على ديمومة شكل المكان بحيث لا يؤثر تطور المكان وتوسعه على معالمه الأساسية حتى تظل الذاكرة تعبر الزمن وتسير بثقة حاملة معها دلالات الثقافة والهوية الوطنية المرتبطة بها. الحفاظ على شكل المكان ليس فقط بالحفاظ على الممتلكات المادية بل أيضاً على معالمه الهندسية.
تخيلوا كيف يفكر مخطط بلدية غزة وهو يقص أشجار الظل العتيقة في شارع عمر المختار وفي ميدان الجندي المجهول. من يعرف المكان يدرك أن شكل الأشجار الكثيف أعطى للشارع وللميدان هويته الجمالية وحين يرى البشاعة التي أضحى عليها المكان والميدان بعد قص تلك الأشجار يدرك القيم الجمالية المفقودة بعد هذا القص.
نفس الشيء في شوارع حي الرمال الفرعية. على أن أتذكر شيئا شخصيا يرتبط بطفولتي في المخيم.
كانت مدارس وكالة الغوث مليئة بأشجار الكينا الضخمة، الآن أطفالي محرومون من هذا المنظر بعد أن تمت إزالة معظم تلك الأشجار حتى يتم بناء فصول جديدة مع التوسع السكاني الذي شهدته المخيمات، وبالتالي فقدت المدارس معلماً مهماً من معالمها.
كان أرسطو يشتكي من قص الأشجار حول أثينا قبل ثلاثة آلاف عام لأن كل شيء يتغير مع تغير تلك الأشجار.
اشتكى بعض أعضاء الكنيست قبل أشهر من أن الأفق في البلاد عربي إسلامي ومسيحي، فحيث تدير وجهك هناك قبلة أو مئذنة مسجد أو صليب كنيسة. لا يوجد شيء يدل على الهوية اليهودية في البلاد. لذا طالبوا الحكومة بالعمل على تغير الأفق من خلال غرس نجمة داود بأحجام كبيرة في الطرقات وفوق التلال. أيضاً هذا وهم. فهوية المكان لا تصنع بل هي تولد مع ارتباط الإنسان بالأرض، عموماً هذه المطالب تشير إلى أهمية هوية المكان في تعميق ارتباط الفرد به.
وهي ربما دعوة لمن يحاول المساس بهوية الناس وبارتباطهم بالمكان عبر التخطيط العشوائي وغير المنظم لمجرد نقص الخبرة أو غياب الذائقة الجمالية والخبرات المعرفية أو أي شيء.
هل يمكن لأحد أن يفسر كيف يصار إلى استبدال الجندي المجهول مثلاً الذي يحمل بندقية تشير إلى القدس بمجسمات هندسية. بالطبع لا شيء يمكن أن يفسر ذلك إلا الاستخفاف الجمالي والقيمي والوطني.
مرة أخرى فإن المكان قيمة والمساس بها يشكل انتهاكاً لجزء كبير من هوية الناس وماضيهم وتصوراتهم عن حلمهم.
بقلم/ عاطف أبو سيف