وصلت المناضلة الفلسطينية اسمى طوبي إلى مدينة رام الله للمشاركة في إحياء يوم المرأة العالمي وعيد الأم في شهر آذار من هذا العام، تجاوزت حاجز بيت أيل العسكري بعد أن أعاقها الجنود عدة ساعات، رائحة الغاز وإطارات مشتعلة في الشارع، مواجهات كانت قد اندلعت أثر إعدام سلطات الاحتلال للشابين أمير دراج 20 عاماً ويوسف عنقاوي 20 عاماً على مدخل قرية كفر نعمة غرب رام الله وذلك الساعة الرابعة فجراً، لتضاف هذه الجريمة إلى جرائم متواصلة ومستمرة من الإعدامات الميدانية التعسفية بحق أبناء شعبنا الفلسطيني.
اسمى طوبي وجدت ان رام الله مخنوقة ومضغوطة، حبل مشنقة يتدلى من رأسها برغم رموزها الشكلية الكثيرة التي توحي بمظاهر الحياة، همهمت خلال عبورها رام الله قائلة: "ان الاحتلال إذا أصبح روتيناً والموت صار عادياً فالمشكلة تكمن في إفراطنا ومبالغتنا في التأويل وصناعة الأمل بالاستعارات، فالخيال في رام الله يسقط عن الشجر كما يسقط الشبان، فلا تجد من يبني من حطامك بيتاً يدل عليك".
اسمى طوبي أمينة سر الاتحاد النسائي العكي نسبة إلى عكا، قادت الحركة النسوية إبان الثورات الفلسطينية ضد وعد بلفور والانتداب البريطاني، أسست الاتحاد النسائي مع زميلتها رقية حقي زوجة الشاعر الكبير عبد الكريم الكرمي أبو سلمى، وأخذت تعمل ليل نهار مع زميلاتها في قيادة المظاهرات وتأمين الكساء والطعام والرعاية لجرحى المعارك مع العصابات الصهيونية والعناية بعائلات الأسرى والشهداء والمطاردين.
عقدت اسمى طوبي المؤتمرات الكثيرة، أرسلت البرقيات الجريئة إلى كل أرجاء العالم محتجة على وضع البلاد والتآمر عليها، شكلت مع زميلاتها فرق إسعاف، دخلت بيوت الضحايا، فحمل الاتحاد العكي على أكتافه ثقل النضال الاجتماعي والإنساني وخاصة كلما ارتفعت الراية السوداء فوق القلعة التاريخية التي حولت إلى سجن مركزي في عكا، وقد زُج فيه مئات من المعتقلين السياسيين، وبين جدران هذه القلعة أٌعدم الكثير من المناضلين، وعينت حكومة الانتداب يوم الثلاثاء للشنق، ورأت ان ترتفع الراية السوداء فوق القلعة ساعة الإعدام، وكثيراً ما ارتفعت ولازالت هذه الراية المشؤومة.
كان على اسمى طوبي ان تسرع كلما ارتفعت الراية السوداء فوق سجن عكا، تحتضن ذوي الشهداء والأسرى المشنوقين الواقفين أمام القلعة ينظرون من بعيد إلى أعلى وقد أنبأتهم الراية ان حبيباً إلى قلوبهم قد استشهد، وكانت تسرع أكثر كلما نُسفت قرية أو بيتاً، تجمع التبرعات والملابس والأغذية والأدوية والإعانات للعوائل المنكوبة، وعندما دخلت اسمى طوبي مدينة رام الله وجدت ان الرايات السوداء كثيرة، البيوت مفجوعة، الجنازات شبه يومية، الراية السوداء فوق سجن عكا لازالت ترفعها حكومة إسرائيل فوق مباني سجونها، وهنا على الأرض ترفرف في شوارع رام الله، ولا يوجد فرق سوى ان المشنقة في سجن عكا حملها الجنود الإسرائيليون على الحواجز صاروا محكمة متحركة، هم القضاة والجلادون ومنفذوا عمليات التصفية، وأنه إذا كان الإعدام حدثاً استثنائياً صار الان ظاهرة روتينية.
في شهر آذار هذا العام وصلت المناضلة هند الحسيني مدينة رام الله للمشاركة في فعاليات يوم المرأة العالمي وعيد الأم، جاءت من القدس ودخلت رام الله عبر حاجز قلنديا، جدار عالٍ وغبار واختناق واهانات وجنون، هذه المرأة التي لقبت بالأم تيريزا الفلسطينية رائدة العمل التطوعي والاجتماعي والتربوي في فلسطين، حولت منزلها عام 1948 إلى دار لرعاية الأيتام، بعد ان احتضنت الأطفال الناجين من مذبحة دير ياسين ولم يكن في جيبها سوى 138 جنيهاً فلسطينياً ومع هذا قررت ان تعيش مع 55 طفلاً يتيماً مقسمة ان تعيش معهم أو تموت معهم، وقد تخيلت ان أولئك الأطفال ان ماتوا فكأنما زال كل المجتمع الفلسطيني، وتحول منزلها إلى دار لرعاية الأيتام، وأصبح بعد ذلك مدرسة يتعلمون فيها، وكبرت المدرسة وتوزعت وتنوعت نشاطاتها، وأصبحت اليوم صرحاً كبيراً باسم دار الطفل العربي الفلسطيني.
هند الحسيني أم الأطفال تفتش في رام الله عن أطفالها، قالوا لها جزء كبير منهم في السجون، جزء آخر تحت الاقامات المنزلية، وآخرون قتلتهم القوات الإسرائيلية والقناصة، هل عادت ذكريات المجزرة؟ تساءلت هند الحسيني وهي تسمع صوت طفل يسأل عن أمه، وآخر يسأل عن أبيه، أطفال يجهشون حتى النوم عياءً، وحينها مرت جنازة الطفلة سماح مبارك من امامها، هذه مدينة أم مقبرة؟ الأطفال ليسوا على مقاعد المدرسة، الأطفال غائبون، لا أجد لهم سوى صوراً على الجدران، علينا ان نوسع المدرسة ونجمع كل الأطفال الآن، أشم رائحة مجزرة في الوطن كله، صوت نحيب مفجع للأمهات والنساء،لا صوت للأطفال في البيت.
في رام الله استقبلت سميحة خليل رئيسة جمعية إنعاش الأسرة كل من سلمى طوبي وهند الحسيني، استضافتهن في الجمعية في مدينة البيرة، ومن هناك تداعت ذكريات امرأة تجمع مع نساء فلسطين كل ما تيسر من ثياب ومال وطعام لإغاثة المنكوبين واللاجئين عام النكبة، لتؤسس بعدها جمعية الاتحاد النسائي العربي في البيرة ومن ثم أسست مع مجموعة من السيدات جمعية إنعاش الأسرة.
هنا في رام الله سميحة خليل، امرأة قادت المظاهرات والمسيرات وسارت في طليعتها، أسقطت بصوتها النسائي مؤامرات ومخططات وتحالفات ضد الشعب الفلسطيني، قادت أضخم وأعظم المظاهرات النسائية دفاعاً عن حقوق شعبنا وحقوق المرأة.
اعتقلت سلطات الاحتلال سميحة خليل عدة مرات وفرضت عليها الإقامة الجبرية لسنوات، مُنعت من السفر ووضعت عليها قيود كثيرة، كانت ممثلة للمرأة الفلسطينية في كل مؤتمرات الدنيا ومحافلها، في خطابها و نبرتها وعزيمتها صوت نسائي مميز، صوت أمهات الأسرى والشهداء والجرحى والمعذبين، قائدة حولت مؤسسة جمعية إنعاش الأسرة إلى حاضنة وطنية وسياسية واجتماعية لكل الفلسطينيين.
امرأة دافعت عن المساواة التامة بين الرجل والمرأة، وسعت لتحقيق أهدافها بإنقاذ الأطفال وتعليمهم وتشغيل الأمهات وإرساء العمل التطوعي والحفاظ على التراث، اغاثت عوائل الشهداء والأسرى وتواصلت معهم، لم تكن تبحث عن أوسمة، كانت تبحث عن الحرية والكرامة وتقدس دور المرأة وتؤمن بقدرتها على الفعل والتغيير والعطاء والمشاركة.
النساء الثلاث توجهن إلى قرية كوبر، إلى بيت سهير البرغوثي أم عاصف، وهناك جلسن فوق ركام بيت ابنها عاصم الذي هدمته سلطات الاحتلال، 40 آلية عسكرية اقتحمت القرية فجراً، حصار وجرافات ورعب، رائحة دم ورصاص وجريمة واسعة جرت في المكان، معركة مستمرة تدور منذ سنوات في بيت أم عاصف، اعتقلوا زوجها عمر وأولادها سنوات طويلة واعدموا ابنها صالح، ولازالت تحمل قميصه المنقوع بالدم، طاردوا عاصم واعتقلوه، اعتقلوها مع زوجها، كانت كل العائلة في السجن في تلك الظلمة اليابسة.
استقبلت أم عاصف النساء الثلاث بعد الإفراج عنها من السجن وقضاء مدة شهر في الاعتقال، أشارت بسبابتها إلى المنزل المهدوم قائلة: (هدموه بس مش رح يهدمونا، لن يقهروني،لن يهدموا عزيمتي وسوف نبني منزلاً أفضل)، وأرسلت تحية إلى 49 أسيرة يقبعن في السجون، أسيرات صابرات عظيمات يجددن الأمل بإيراداتهن الجامحة.
شرحت أم عاصف تلك الليالي الموحشة، التدمير والموت والاقتحام كان يشارك ملذات جنود الاحتلال المنتشين بالكراهية والانتقام وأجادوا عملهم بدقة، وكما وصفتهم إحدى المذيعات الإسرائيليات بأنهم تحولوا إلى حيوانات بشرية، قتلوا وهدموا ودمروا واعتقلوا وجرحوا واستباحوا وأرعبوا وقلعوا، لكنهم لم يشبعوا، لا زال هناك هدف، هناك امرأة تقلق دولة إسرائيل، امرأة مزدحمة بعواطف الغائبين، تصير تارة شجرة وتارة حجرا، تصير طيرا، تصير ريحا، تصير عاصفة.
اسمى طوبى وهند الحسيني وسميحة الخليل في بيت أم عاصف البرغوثي، الدم لازال ساخناً، الأرض في آذار تلتهم الحياة بشهوة فازدهرت أشجار اللوز بين الركام، الأرض الان ثلاث نساء يجددن ذكرياتهن وصباهن فوق التراب وعند النبع في ساعة الصلاة.
لم تعرف حكومة الاحتلال التي تمارس القرصنة المالية والعدوان على حقوق شعبنا ان العناية بعوائل الأسرى والشهداء والجرحى والمنكوبين هي جزء من التاريخ الوطني النضالي الإنساني الأخلاقي لشعب بنى حياته قطرة قطرة، وكانت النساء حارسات الأحلام والأرواح والانتصارات والدماء الطاهرة النازفة.
المدن الثلاث عكا والقدس ورام الله تجتمع في بيت امرأة واحدة بيت أم عاصف البرغوثي، الماضي والحاضر والنبوءات القادمة، الدمع والنار واليقين في عين واحدة.
للمدن الثلاث رائحة نساء، عكا رائحة البحر والملح والأمواج الغاضبة ، القدس رائحة الصلاة وزيت الزيتون والهبات المتلاطمة، رام الله رائحة السجين يغازل الشمس قرب النافذة، رائحة تتذكر رائحة أخرى تقودك إلى المكان الأول، يقف المكان مكانه، اللحم والدم والعضلات والسهول والجبال، الأحياء والشهداء ، القصائد والأغاني والروح والعافية.
بقلم/ عيسى قراقع