مرَّت غزَّة بأحداث دامية في عام (2007) - لا أود ذكرها لمرارتها- اكتوت فيها البيوت والعائلات، وعم القهر النفوس مصحوباً بحقد متصاعد، تخاصم فيها الجيران وتفرَّق الخلّان، حتى انصرف الصاحب عن صاحبه والعم عن ابن أخيه، وللحظة اعتقدنا أنَّ غزَّة لم تعد تتسع لأهلها، وأنَّها ابتليت بداء ليس له دواء، فرَّق نسيجها وغيَّب مودَّتها .
لكن مرَّت السنين، وبدأ النسيان يفتت ذاكرة الماضي الأليم، أو بصورة أدق يحجبه عن البروز، وتعالت الناس على جراحها، كبر أطفال تلك الفترة وأصبحوا شبابًا، لم يشهدوا تلك اللحظات الدامية ولم يخبرهم الأهل عنها، حتى لا تتلوث نفوسهم بخبث الماضي وقهره .
بالأمس تظاهر الناس في غزَّة، التي تخضع بشكل مطلق لسيطرة حماس، يطالبون بحياة كريمة، رفعوا شعار" بدنا نعيش"، لم يخرجوا ضد حماس ولم يطلبوا منها الرحيل، خرجوا يتضامنون مع أنفسهم التي حاصرها الضيق وخنقها الفقر والضنك، ولا ينكر عاقل ظروف العيش البائس للناس في غزَّة، بغضِّ النظر عن أسبابها ومسبباتها، ليس أمام الناس إلا أن يتظاهروا في موطنهم ومكان سكنهم، أيعقل أن يتظاهروا في الجزائر مثلاً أو حتى في رام الله؟! وهم محاصرون في سجن كبير، فغزَّة أولى بأهلها لتحنوا عليهم وتسمع أنينهم.
للأسف قابلت الأجهزة الأمنية التابعة لحماس هذه التظاهرات بالقمع والملاحقة، وامتلأت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، والشاشات والمواقع الإخبارية المحلية وبعض العربية والدولية بصور القمع والمطاردة، وبدأت تنشط ذاكرة الناس تستدعي الماضي الأليم، الذي تمنينا أن يموت ولا يعود أبداً.
مفهوم استدعاء الماضي من الذاكرة، ليس كلامًا من وحي الروايات، بل هو قولاً علميًّا مبنيًّا على نظريات وبحوث، حيثتفترض نظرية التهيئة المعرفية "Cognitive Priming"، والتي تعتبر من أبرز نظريات الاتصال السياسي، وقياس الرأي العام، أنَّ الأفكار التي لها علاقة ببعضها البعض، تتصل مع بعضها في شبكة عقلية، وإنَّ استثارة أحد هذه الأفكار يؤدي إلى استثارة الأفكار الأخرى المرتبطة بها من الذاكرة في إطار السياق التي تدور فيه.
اليوم وفي ظلِّ الانتشار الواسع لمواقع التواصل الاجتماعي، وأدواته السهلة في متناول كلِّ يد، خاصة الهواتف المحمولة، لا يقتصر نقل الأخبار والصور على وسائل الإعلام التقليدية، كالصحف والتليفزيون والإذاعة، وبات من السهل إبراز القضايا ونقل الأفكار واستثارة أفكار متشابهة، وتقول النظرية السابقة كلما زاد تركيز التغطية على قضية معينة فإنَّ الجماهير يعتمدون على ما يعرفونه عن هذه القضية في تقييمهم العام للحكومات والرؤساء والسياسيين والأحزاب والجماعات.
لذا كان من الأولى أن لا يُقمع الناس، وأن يُسمح لهم بالتظاهر السلمي، وأن يُسمع منهم، وأن نبحث عن حلول تغيث الناس وتنقذهم من بؤسهم وضنك حالهم، وأن لا تسمح حماس بالمطلق أن يحدث ما حدث، وأن يقع هذا القمع المبالغ فيه، خاصة أنَّ تظاهرات المواطنين لم تطالب بمحرم أو محظور، ولم تشكِّل خطرًا على الأمن والسلم المجتمعي، وهي مطالب مشروعة نابعة من ظروف معيشية صعبة لا تطاق.
نصيحتي إلى حماس، لا تصنعوا من الحاضر ما يستثير وجع الماضي، ولا تستدعوا ذاك الماضي الأليم، فالسلم المجتمعي هو الضامن الوحيد للأمن والاستقرار، والمصالحة المجتمعية هي الحاضنة للمصالحة السياسية، دعوا الماضي يموت، واغرسوا بذور الرحمة لتنبت ثمار الحب، فلسطين وطن الجميع، وغزَّة بيتنا الكبير، عليها ولدنا وبدمائنا الغالية عبَّدنا دروبها، من حقّنا أن نحيا فيها لا نموت.
بقلم/ د. محمد قنيطة