وصايا زيارة مدينة الملاهي للصبيّة المسلمة: "أولًا: ممنوع أن أشتري شرابًا مثلّجًا أحمر لكي لا تحمرّ شفتاي ولساني. ثانيًا: ممنوع ركوب الحصان، ويسمح بركوب الحنطور. ثالثًا: ممنوع الركض والهرولة أمام الرجال. رابعًا: يسمح بشراء الآيسكريم ولكن ينبغي لعقه بطريقة لا تظهر اللسان. خامسًا: يجب التحفّظ على الدهشة، الصراخ ممنوع، الصراخ دليل على التهتّك وقلّة الحياء". تلك الوصايا وردَت في رواية "كبرتُ ونسيت أن أنسى"(ص.71) للروائيّة الكويتيّة بثينة العيسى، الصّادرة عن الدار العربيّة للعلوم ناشرون - بيروت وتحتوي على 280 صفحة، وقد صمّمت الغلاف ديمة الغنيم (صدرت لها عدّة روايات: ارتطام .. لم يسمع له دوي، سعار، عروس المطر، تحت أقدام الامهات، عائشة تنزل إلى العالم السفلي، خرائط التيه، كلّ الأشياء وكذلك مجموعة نصوص بعنوان "قيس وليلى والذئب").
قرأت قصيدة "وحشُ الهيدرا" للشاعر الفلسطينيّ منتصر منصور الواردة في ديوانه الأخير "أنفاس العدم" فأخذتني ثانية للرواية، ولأعيد قراءتها من جديد!
طرحت بثينة العيسى في رواياتها مواضيع متعدّدة وجريئة وبرعت في تصوير المواقف بأسلوب رشيق ومُمَيّز.
في رواية "ارتطام .. لم يسمع له دوي" تناولت قصّة فرح الكويتيّة التي تلتقي في السويد بشاب كويتي من "البدون" يعيش في الغربة ويبدأ صراع الغربة والوطن، صراع الهوية والغربة عن الذات.
أما في رواية "سعار" تناولت قصّة سعاد التي تعرض الزواج على حبيبها بعد محاولة اغتصابها من قبل صديق والدها وتغوص في زيف العلاقات الاجتماعيّة.
أما في رواية "عروس المطر" فبطلتها أسماء ترحل بين المراهقة والنضوج لتتمرًد على العادات والتقاليد المتحجّرة والمتكلّسة.
في رواية "تحت أقدام الامهات" تصوّر عالم المرأة، سلطتها وضعفها، ورضوخها للسلطة، أيّا كانت.
في رواية "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" تصوّر حياة عائشة التي يموت ابنها عزيز في سن الخامسة فتتحول حياتها إلى جحيم، متقلّبة بين الحزن والألم والأمل والحياة، قاربت الموت مرّات عديدة فتُصدم بعودتها للحياة.
في رواية "خرائط التيه" تتناول رحلة حج عاديّة تتحوّل إلى مسلسل رعب وقلق يعيشه فيصل وسمية الكويتيّان وهما في بيت الله حيث يضيع مشاري -ابنهما الوحيد- فيَتيها، فلكلّ منّا تيهه الخاص به وكلّه مربوط ومتشابك ببعضه.
في رواية "كل الأشياء" تتناول قلق الإنسان في ظلّ الهزائم والاغتراب والخيبة.
أما روايتها "كبرتُ ونسيتُ أن أنسى" فتتناول قصّة الطفلة فاطمة، توفي والداها بحادث طرق وهي في الثالثة عشرة من عمرها، تولّى أخاها أمرها، عايشت بزوغ الحركات الدينيّة التي كفّرت كلّ شيء، من موسيقى وشعر ورسم، مُعنّفة باسم الدين والتقاليد التي تقمع المرأة في مجتمع ذكوريّ، يحرمها من طعم الحريّة ومذاقها، تلتحق بالكليّة لتتعرّف على عصام عبر الانترنيت فيكتشف أخاها الأمر ليحبسها في سرداب لسنوات ويحرمها التعلّم وكتابة الشعر ويزوّجها من صديقه، لكنّها تثور وتحطّم القيود بطلاقِها لتلتقي عصامها مجدّدًا وتتحرّر بكتابة الشعر لتتخلّص من الأحزان.
جاء في بداية الرواية: "قالوا لي جميعًا: تكبرين وتنسين.
المشكلة هي أنّني كبرتُ ولم أنسَ،
كبرتُ ونسيتُ أن أنسى.."
هل فعلًا بإمكانها أن تنسى ما مرّت به من معاناة وعذاب إثر التغيّرات التي حلّت بها ومن حولها؟ "لم يكن اليتمُ هو وفاة والديّ. اليتمُ الحقيقي هو أنني لم أمت، وأن صقر لم يمت أيضًا، فقد بقي في العالم ليصير جلّادي، ليفتّش حقائبي بحجّة البحث عن علكة، ويتفحّص هاتفي بحجّة البحث عن رقم هارديز، وليراجع تصفّحي في الكمبيوتر ليتحقّق من أنّني لا أحيد عن صراط الفضيلة ولا أتحاور مع رجال في الفضاء السيبيري". (ص.83) حاول التيّار الديني ورجالاته تغيير الأمور، خلط الأوراق من جديد وقلب "قوانين اللعبة" باسم الدين؛ لقد تغيّرت القوانين، الحلال صار حرامًا، والمباح صار منكرًا، والجميل صار قبيحًا. الاحتفاء بالدهشةِ لم يعد أمرًا جيدًا، التوغّل عميقًا في شهقة الوجود لم يعد مقبولًا، و"الأخ الأكبر" أصبح بين ليلة وضحاها الحاكم بأمره، يحلّل ويحرّم على كيفه وكما يحلو له ليفرض سطوته على ما هو حوله، وكأنّي به وصيّ الله على الأرض: "صار بوسعه أن يكون مسؤولًا عنّي، أن يجعل منّي مشروعه الإصلاحي...كان مقتنعًا بأنني ملتاثة، وفي أحسن الحالات: مكسورة، وبحاجة إلى إصلاح. كان مختلفًا مع أبويّ وينكرُ عليهما أشياء كثيرة: سماع الموسيقى، شراء الباربي، تزيين المناضد بالصور الفوتوغرافيّة، الاحتفال بأعياد الميلاد، حضور الأعراس في الفنادق.. لقد كان صقر ماضيًا في مهمة نبيلة معي، اسمها، إنقاذ ما يمكن إنقاذه". (ص.41)
تناولت الكاتبة أمر التثاقف بين الشعوب المختلفة، التفاعل مع الآخر الذي يتكلم لغة أخرى والتواصل لبناء علاقات إنسانيّة سليمة، فتغزّلت بالفرنسيّة: "لغة تشبهُ الموسيقى، تعشقها في أذنك وفي فمك، تضع كلماتها في قلبك وتختبر خفتها، رفرفتها، غنجها، وقدرتها على الذوبان في لسانك، لغة راقصة، مليئة بالمدود والانثناءات والتخصّرات، وفيها أحرف صامتة كثيرة، مثل صناديق مليئة بالأسرار، وإذا تجاسرت وتحدّثت بها، تشعرُ بأنّك تتكلّم وفمك مليء بالعسل، أن يسيل من زاوية شفتيك، تخاف أن يذهب العسل وأن تبقى وحيدًا"(ص. 77) رغبت بالسفر في اللغة، دون جواز سفر، والأهم دون محرم. "هل أستطيع أن أسافر من خلال لغتي الأم؟ لغتي القديمة، الحزينة بطبيعتها، الملوّثة بالآخرين، الملطّخة بوحولهم، والرازحة تحت تعسف مصادرة المعنى واحتكار الحقيقة وقتل فردانيّة المفردة، "هذة اللغة، لغتي، هل أستطيع تنقيتها وإعادة خلقها واستخلاصها لتكون لي وحدي، لتكون شيئًا يشبهني ويقولني؟" (ص.79) أرادت للغتها أن تتحرّر وتنطلق نحو الإنسانيّة.
صرخت ضد التغييب، التكفير، التقوقع، التكلّس، الإنغلاق والتعتيم والظلام الفكري في عصر العولمة: "في ذات اليوم، أقام صقر الدنيا ولم يقعدها، لأنّه عثر في كتابٍ أقرأه على كلمة "نبيذ".. انتزع الكتاب مني ومزّقه ثم ألقى به تحت قدميّ...صرتُ ألملم الأوراق وأنا أعتذر. أقمت لهم قبرًا جماعيًا، في أصيص فارغ في حوش البيت، دفنتهم معًا" (ص.102)
فصول الرواية قصيرة، فلاشات مشوّقة، أسلوبها شاعريّ وانسيابيّ. راق لي تجنيدها للسخرية السوداء الجارحة: "لأول مرة منذ سنواتٍ كثيرة لم أكن مضطرة إلى أن أغمض عيني لكي أرى الجمال"، "حياة تفّاحة فاسدة؟ ربّما عليّ أن أكون تفّاحة فاسدة حتّى لا يأكلني أحد"، "صرتُ أقوم بطباعةِ الكتب المقرصنة من الانترنيت، وأغلّفها بغلاف بلاستيكي شفّاف وأضع على الغلاف عناوين على شاكلة:
مهارات التفاوض 221 – د. أنسي الحاج
مقدمة في العلوم السياسية 101 – د. محمود درويش
الإدارة وأنظمة الحاسوب 301 – د. أمين صالح"!!!
"كلّما ضاقت الزنزانة اتسعت القصيدة"؛ رغم القيود والمضايقات نجحت في كتابة قصيدتها الأولى في السرّ على قاع علبة كلينيكس، وصارت شاعرة، حلّقت وكتبت الصمتَ وذابت فيه، وأصبح العالم لا يتسع لقصائدها.
صار الشعر متنفّس فاطمة، تحثّ النساء على المقاومة، يزهرن من الداخل حتى يعمّ النور خارجهن، تثور ضدّ زوجها الذي "سمح" لها بكتابة الشعر دون نشره فهو رمز مجتمع شرقيّ يرى أن صوت المرأة عورة، وصوت الشاعرة فضيحة فتثور ضدّ المراءاة، النفاق وازدواجية المعايير: "تتسامحون مع القبح، مع ضرب الأطفال واغتصاب النساء، مع الشتم واللعن، مع العنف المنزليّ، مع العنصريّة، تتسامحون مع إسرائيل، مع أمريكا، مع طائفيّتكم، مع فساد الحكومة، مع زواج القاصرات، مع كل شيء! تتسامحون مع هراء العالم كلّه ولكنكم لا تتسامحون مع قصيدة.."
نادت بأن تكون الحياة جميلة بطبيعيّتها وبساطتها، عالم بوسع المرء فيه أن يكون نفسه، أن يشبه ظاهره باطنه، وأن ينسجم مع حقيقته – أن يدرس الفرنسيّة، أن يرسم عصفورًا، أن يكتب قصيدة في النور، أن يجلس وحيدًا، أن يركض في الملاهي، أن يلامس البحر بقدميه، أن يمشي إلى البقالة وحيدًا، أن يجالس الأصدقاء في مقهى " لماذا سرقوه؟ لماذا يقتحمني العالم إلى هذا الحد؟" لا تفهم شعور الضحايا بالعارِ من كونهم ضحايا، هناك دائمًا ذلك الصوت اللئيم الذي ينبثق من أعماقك ويردّد: ما كان عليّ أن أخطئ وأصير ضحية. "لماذا تخجلُ الضحيّة من القيد في معصميها؟"
استعمالها للهوامش كان سلسًا دون إقحام، فذكرها لبدر شاكر السيّاب، طرفة بن العبد، الأصمعي، وجورج أورويل 1984 ورايتر- ماريا ريلكة وغيرهم يدلّ على ثقافتها العريضة، ولم يثقل على النصّ، بل جاء موازيًا ولبقًا.
جاءت نهاية الرواية سعيدة كلّها أمل وتفاؤل: "أجلس ويجلسُ، رجل وامرأة وثالثهما الشعر...البطل في الحكاية ليس الرجل ولا المرأة، ولا الذاكرة ولا النسيان. إنّه الشعر!"
"قلبي ثقبٌ أسود
يمتصُّ كل شيء
أنا فوهة العدم القاهرة
أنا قيامة العالم"
بقلم/ حسن عبادي