مهرجان الأرض للأفلام الوثائقية: فلسطين المتجددة سينمائيا وضميريا

بقلم: إبراهيم نصر الله

حين وقف المخرج الفلسطيني محمد العطار أمام جمهور مهرجان الأرض السادس عشر في سردينيا، ليتسلم جائزتيه، عن فيلمه، أعلن أنه يحسّ بأنه كفلسطيني غير وحيد، ما دامت كل هذه القلوب الإيطالية تحتضن فلسطين وقضيتها في هذا المكان من العالم، وفي أمكنة أخرى.

هذه ظاهرة يلمسها كل من أتيح لها التنقل في كثير من بلدان العالم، فهناك، في تلك الأماكن البعيدة، تبدو فلسطين قريبة جداً من أرواح بشر يحبونها ويدافعون عنها، كبوصلة للحرية والشمس، والغد الأكثر عدالة وتصالحاً مع نفسه ومع شعاراته التي يرفعها البشر، وتعصف بها رياح الأنظمة، وفي هذا لا تختلف أنظمة كثير من بلدان هذا العالم عن الأنظمة في عالمنا العربي.
يلفت الانتباه في المهرجان الذي يقام في شهر الأرض، ذلك العدد الكبير من المتطوعين للعمل، ويشمل هذا الإداريين، ومترجمي الأفلام للإيطالية، ومنظمي المهرجان المعنيين باستقبال الضيوف وتسهيل تنقلاتهم، وموسيقيين، وممثلين ومخرجين، وأعضاء لجان تحكيم، وصحافيين، ومدرِّسي وطلاب مدينة كاليري، العاصمة السردينية، ومحبين للمهرجان يأتون من مدن أخرى لمتابعة العروض.
ونعود إلى عروض المهرجان التي ضمت ثلاثين فيلماً طويلاً وقصيراً داخل المسابقة الرسمية، أنجزها مخرجون من فلسطين، وفرنسا، وبريطانيا، وتشيلي، والعراق، ولبنان، ومصر، وإيطاليا…، وكانت تتمتع بمستوى رفيع، ليس فقط على صعيد الموضوعات، بل على صعيد التقنيات التي ترقى للعالمية، كما في فيلم المخرجة المصرية أمل رمسيس (يأتون من بعيد)، الفائز بجائزة الأرض؛ هذا الفيلم الذي أنجز بجهد كبير، على مدى سنوات طوال، ورحيل إلى الماضي للبحث فيه. إنه حكاية فلسطينية مختلفة عن كاتب وسياسي فلسطيني، هو نجاتي صدقي، ومشاركته في ثورات الشعوب قبل النكبة والحكاية المؤثرة لأسرته التي تم تشتيتها بعد النكبة وقبلها. إنه حكاية فلسطين التي لم تقبل أن تكون محايدة حينما كان شعب آخر يتعرض للظلم.. حكاية تقول إن فلسطين قبل نكبتها كانت معنيّة بما يحدث للبشر في كل مكان.. ولكنها لم تزل تعاني كما يعاني شعبها… في كل مكان.
والأمر كذلك مع فيلم أحمد البرغوثي: (خمس دقائق)، الفائز بجائزة فلسطين، والذي يصوّر حكايات تدمير الطيران الصهيوني لبيوت الفلسطينيين في غزة، حيث يطلب الجيش الصهيوني من سكان العمارات والبيوت مغادرتها خلال مهلة أقصاها دقائق خمس. ثمة هنا مشاهد مرعبة تحبس الأنفاس، والمشاهِدُ يرى كيف على رجل واحد تلقّى مكالمة من الجيش الصهيوني أن يتحرك بسرعة ويخبر أكثر من مائة إنسان أحياناً، بأن عليهم مغادرة العمارة، دون أن ينسى سكانها واحداً من المائة: جدة على الشرفة، أو صغيراً لا يعرفون إن كان في البيت أو الشارع، شخصاً نائماً، وامرأة عليها أن تلبس ثوبها وغطاء رأسها، حتى إن استشهدت تكون مستورة! في وقت تكون فيه الطائرة تحوم في الجو والبشر يندفعون كسيل من الطوابق العليا، والجيران يخلون منازلهم أيضاً، خوفاً من الموت نفسه.
فيلم حنان وإياد الأقطش: رزان: أثر الفراشة، الفائز بجائزة سينما الشباب، فيلم مؤثر يروي قصة الممرضة الفلسطينية الرائعة، التي استشهدت خلال مسيرات العودة، وفيه حضور استثنائي لأمها، وهي تستعيد رزان منذ طفولتها، إلى أن ذهبت الأم لتكمل دور ابنتها. في العالم يكمل الأبناء مشوار الآباء والأمهات، ولكن لوعة الحكاية الفلسطينية حارقة إلى تلك الدرجة التي تقوم فيها الأمهات والآباء بإكمال مسيرة بناتهم وأبنائهم الشهداء.
فيلم العراقي قاسم عبد: مرايا الشتات، وفيلم الفلسطيني محمد العطار، وفيلم التشيلي آلدو كوريرو: أربعة ألوان، والإيطالي ماتيو كاسيل: مزارعون تحت النار في غزة، والفلسطيني وسام الجعفري: دون تردد، كلها نماذج رائعة لسينما تعيش لفلسطين وتدافع عنها، بلغة سينمائية متفوقة، وذكاء وحرفية، تقف وراءها جهود جبارة، مثل تلك التي نلمسها في فيلم Broken للعطار، الذي يتابع فيها تفاصيل وقائع المحكمة الدولية بشأن جدار الفصل العنصر، وفيلم عبد الذي يتابع فيه حياة سبعة من فناني العراق التشكيليين في منافيهم.
الملاحظة البارزة في مهرجان هذا العام، والأعوام السابقة، الحضور الكثيف لغزة في الأفلام، بكل ما تحمله من تتبع لحياة البشر في البحر والبر، في حياتهم اليومية ونضالهم. ومن اللافت جداً، ويدعو للفرح، هذا العدد الكبير من المخرجين الشباب في غزة، الذين ينتزعون بجدارة كل عام بعض أهم جوائز المهرجان، رغم ما تعانيه غزة من حصار بغيض.
دورة المهرجان لم تقتصر على العروض الوثائقية، بل احتفت هذا العام بالمخرجة الفلسطينية الكبيرة مي المصري، شخصية العام المكرمة، تقديراً لمسيرتها السينمائية وعطائها المتجدد الذي يشكل سجلاً حافلاً لمسيرة شعبها، بدءاً من تجربتها في الأفلام الوثائقية ومروراً بفيلمها الروائي (3000 ليلة) وما ينتظره محبو السينما من مشاريعها القادمة.
وفي زمن يُمحى فيه اسم فلسطين وخريطتها من مناهج مدرسية سلطوية فلسطينية وعربية، يتجمّع طلبة المدارس الإيطالية في عاصمة سردينيا لمشاهدة العروض الخاصة لأفلام منتخبة، ويتجمّع أساتذة المدارس لحضور محاضرات حول اللجوء الفلسطيني والنكبة الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني على مدار أكثر من مائة عام، وتعرض مسرحية المخرج أنطونيو ليغاس، والممثلة ماريا لاورا كازيللي: اسمي راشيل كوري. ويُحتفى بصدر ديوان (مرايا الملائكة) الصادر بالإيطالية بترجمة حققها الدكتور وسيم دهمش وبتقديم الدكتورة بينا روزا بيرّاس، وهو سيرة متخيلة للشهيدة الرضيعة إيمان حجو، ويعرض الفنان جهاد أبو حشيش لوحاته في المعرض المقام ضمن فعاليات المهرجان.
.. وتظل فلسطين تتجدد وتعلو بإبداعات ونضالات محبيها وأبنائها في كل مكان.


إبراهيم نصر الله