هي الانتفاضة الثالثة!

بقلم: معتصم حمادة

أثبتت الوقائع والتطورات فشل استراتيجية «الانتقال من السلطة إلى الدولة»، في ظل الشروط السياسية والأمنية والاقتصادية التي ترهق الحالة الوطنية الفلسطينية. بل على العكس من ذلك، نحن نعيش مرحلة تتقلص فيها الصلاحيات والمساحات الجغرافية التابعة للسلطة، في ظل إسقاط الاحتلال، من جانب واحد، اتفاق أوسلو، وتجاوز التزاماته، في الميادين المتعددة.

فأموال السلطة، معرضة للنهب على يد دولة الاحتلال، في مخالفة فاقعة لاتفاق أوسلو. ومناطق السلطة (المنطقة أ) باتت مستباحة من قبل قوات الاحتلال، وهذا أيضاً مخالف للاتفاق، فضلاً عن أن اقتصاد السلطة يزداد تبعية للاقتصاد الإسرائيلي، بعد أن فشلت استراتيجية حكومة سلام فياض التي دعت إلى بناء اقتصاد وطني في ظل الاحتلال.

وفوق هذا، مازالت العملة الإسرائيلية هي المتداولة في مناطق السلطة، ومازالت يد الاحتلال هي العليا في كل شيء. بحيث يمكننا أن نعيد التأكيد أن أوسلو، لم يفشل في بناء الدولة، أو حتى نواة الدولة فحسب، بل وفشل كذلك في بناء سلطة الحكم الإداري الذاتي المحدود، الذي مازال يتقلص، لصالح تمدد سلطات الاحتلال، و«سلطة» المستوطنين، التي تحولت في الضفة الفلسطينية، إلى «سلطة أمر واقع» تمارس عربدتها ضد المواطنين الفلسطينيين، تحت حماية قوات الاحتلال، وبدعم وتسليح منها.

كما أثبتت التجارب المرة لمفاوضات أوسلو أنها عقيمة، ولن تقود إلى الفوز بالحد الأدنى من الحقوق الوطنية، وأن سياسة التلهف للقاء نتنياهو، في موسكو، أو في مسقط، ما هو إلا تعبير عن أزمة أوسلو في جانبه الفلسطيني. أزمة المفاوض الذي وصلت رهاناته على المفاوضات، «خياراً وحيداً»، إلى الطريق المسدود، وأن البديل العملي، هوما يفرضه الجانب الإسرائيلي من وقائع ميدانية، تخدم مشروعه لقيام «دولة إسرائيل الكبرى»، بابتلاع كل ما يمكن ابتلاعه من الأرض الفلسطينية المحتلة، بالقوة الأمنية، وبقوة «سلبطة» المستوطنين، وبقوة «قانون الاحتلال»، وبكل أشكال الاحتيال، والأهم بقوة تداعيات «صفقة ترامب»، التي تشق طريقها غير آبهة بالمعارضة الكلامية، التي لم تتحول إلى الآن، معارضة ميدانية.

نسوق هذا الكلام لا لنكرر كلاماً سابقاً، بل من أجل الوصول إلى تعريف جديد، واقعي، حقيقي، للمرحلة التي نعيش على الصعيد الوطني.

* * *

بكل ثقة، نقول، إننا نعيش مرحلة «الانتفاضة الثالثة». وهي خط التواصل مع الانتفاضتين الأولى والثانية.

الوصف الرومانسي للانتفاضة الأولى أنها كانت «انتفاضة الحجارة». بنت لنفسها قيادة وطنية موحدة، ورسمت لها آليات عمل نضالي جماهيري، في أنحاء المناطق الفلسطينية المحتلة. ومع إعلان الاستقلال (15/11/1988) رسمت هدفها الواضح والجلي، إلى أن انقلبت عليها البيروقراطية العليا في م.ت.ف، وذهبت من خلف ظهر الجميع إلى اتفاق أوسلو، الذي مازلنا نعيش قيود بقاياه.

أما «الانتفاضة الثانية»، وفي ظل ظرف جديد، انطلقت باعتبارها انتفاضة مسلحة. لها تعبيراتها وتشكيلاتها القيادية والنضالية والجماهيرية المختلفة. لم تكرر تجارب الانتفاضة الأولى. كانت هذه المرة رداً على انسداد أوسلو في مفاوضات كامب ديفيد 2000(تموز- يوليو2000)، وجرى تطويقها سياسياً، محلياً وإقليمياً ودولياً، تارة بوصمها بالإرهاب، وتارة أخرى بمشاريع ولدت ميتة (خطة الطريق) وأخيراً، بإعلان الاستراتيجية السياسية «الجديدة»، مع ولاية الرئيس محمود عباس: «المفاوضات السلمية خيارنا الوحيد للوصول إلى تسوية مع الاحتلال».

غير أنه في مطلع العام 2015، وبعد أن وصلت هذه الاستراتيجية كما وصلت مشاريع إدارة أوباما للتسوية إلى الطريق المسدود، رغم «إبداعها» في رسم آليات وصيغ تفاوضية عديدة، نجحت الحركة الشعبية وقواها اليسارية والديمقراطية والوطنية، في الوصول إلى توافق سياسي، شكل خطوة متقدمة إلى الأمام، حين صدرت قرارات المجلس المركزي الفلسطيني في 5/3/2015، بالتحرر من التزامات أوسلو، سياسياً، وأمنياً، واقتصادياً، والتحرر من عمليته التفاوضية العقيمة، والذهاب بدلاً من ذلك إلى المقاومة الشعبية في الميدان، باعتبارها الخيار الوطني البديل، وإلى تدويل القضية الوطنية في الأمم المتحدة (مؤتمر دولي) ومحكمة الجنايات الدولية (محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين ونزع الشرعية عن الاحتلال، وعزل دولة إسرائيل عالمياً).

وإن كانت القيادة الرسمية قد عطلت هذه القرارات، منذ ذلك التاريخ، إلا أن صداها في الحالة الشعبية، كان واضحاً، باعتبارها خياراً سياسياً نضالياً بديلاً لأوسلو. وقد وجدت هذه القرارات صداها في الشارع الفلسطيني بأشكال مختلفة، تمثلت في تكاثر الدعوات والضغوط لتنفيذ هذه القرارات، ورسم استراتيجية جديدة، هي «استراتيجية الخروج من أوسلو»، كما تمثلت في إحداث الحراك السياسي الواسع في الحالة الفلسطينية، الداعية إلى الذهاب إلى المقاومة الشعبية.

وليست مصادفة أن يخرج الشباب الفلسطيني، الذي رأي في قرارات المجلس المركزي خطوة مهمة، إلى الشارع، ليتولى بيديه هو مباشرة تنفيذ هذه القرارات، وقد فقد القناعة بقدرة واستعداد وجدية نوايا القيادة الرسمية على الالتزام بما قررته المؤسسة الوطنية.

انتشرت أعمال الطعن بالسكاكين، والدعس بالسيارات، وزرع المتفجرات اليدوية في محافل السيارات، وبدأت فئات الشباب تنتقل من حالة المراقبة والمتابعة والانتظار، إلى حالة الفعل الفردي، غير المنظم، والذي افتقد إلى حاضنة فصائلية، وطنية، تطوره، وتدفع به إلى الأمام وتحوله إلى مقاومة شعبية شاملة، بكل أنواع المقاومة، وفي كل مكان من الأرض الفلسطينية المحتلة.

المسار التصعيدي الأميركي – الإسرائيلي لم يتوقف، وبالمقابل، استمر المسار النضالي هو الآخر في الصعود. كانت «الصفعة» التاريخية الكبرى واللطمة المهينة على وجه سياسة الرهان على أوسلو، «صفقة ترامب»، و«قانون القومية» الإسرائيلي، في الخطوات التطبيقية لهذين المشروعين المتحالفين في استراتيجية واحدة. واستمر النضال الميداني بأشكاله المختلفة: تطوير قرارات المجلس المركزي في دورته في 15/1/2018، وفي دورة المجلس الوطني (30/4/2018). تصاعد عمليات المقاومة الفردية واتخاذها أشكالاً متنوعة: انطلاق بؤر الاشتباك مع الاستيطان والتهويد، في أنحاء مختلفة في الضفة والقدس والخليل، انطلاقة

مسيرات العودة وكسر الحصار في قطاع غزة التي تشرف الآن على بداية عامها الثاني، وتقدم قوى اليسار الفلسطيني إلى الأمام في خطوات سياسية ضاغطة لأجل تنفيذ قرارات المؤسسة الوطنية، وبناء الائتلاف الوطني لاحتضان المقاومة الشعبية وتطويرها عملاً بقرارات الإجماع الوطني.

هذا كله، إذا لم يكن في مجموعه، وباعتراف سلطات الاحتلال الإسرائيلي، نفسها «انتفاضة ثالثة»، فماذا يمكن يا ترى أن يكون؟

* * *

انتفاضة متنقلة في أنحاء مختلفة من القدس والضفة، وفي القطاع. فتحت جبهات اشتباك ميداني مع قوات الاحتلال، دفعت أجهزة أمنية ومراكز تحليليه لدى دولة الاحتلال إلى توقع حصول انفجار واسع في الضفة الفلسطينية، سيكون لها هذه المرة آثارها المختلفة، خاصة في ظل سلطة فلسطينية مأزومة، لن يمكنها السيطرة عليها كما فعلت عام 2005.

هذه الانتفاضة مرشحة للتصاعد، وليس للانكفاء. هكذا تقول الوقائع. لكن مازال هناك أكثر من عنصر يعطل عليها هذا التصاعد والتحويل إلى انتفاضة شاملة، مسلحة بقرارات المجلسين المركزي والوطني. أهمها:

1 ـــــ حالة التفكك التي تعيشها م.ت.ف، وأكثر تعبيراتها الفاقعة حالة الغياب والتغييب للجنة التنفيذية، وسياسة التفرد والانفراد، التي ألحقت الأذى بالعلاقات بين فصائل المنظمة ومكوناتها. الخروج من هذا الوضع يكون بتصويب العلاقات داخل المنظمة، وإعادة بناء العلاقات بين مكوناتها على أسس الشراكة الوطنية، وإعادة الاعتبار للجنة التنفيذية، واستعادتها لصلاحياتها التي أحيلت إلى السلطة الفلسطينية التي تعيش حالة ذوبان سياسي. وإعادة بناء مؤسساتها وفق الواقع الجديد، الذي يقول إنه انتهى زمن معادلة «النصف+1»، وانتهى زمن معادلة «الحزب القائد»، و«الفصيل الأكبر»، وإن الوقائع المستجدة، خلقت معادلات جديدة، لا يمكن لأحد أن ينكرها بعد اليوم. هذا من شأنه أن يعيد الثقة إلى المؤسسة المعرضة للذوبان لصالح سلطة الفرد الواحد.

2 ـــــ الخطوة الثانية الشروع في نزع أوتاد التعطيل أمام تنفيذ قرارات المجلسين الوطني والمركزي، في اشتباك ميداني وسياسي، وإعلامي، ودبلوماسي، مع صفقة ترامب، وسياسات الاحتلال، ونقل المعارضة من مرحلتها الكلامية التي فقدت ديناميتها (الضعيفة أصلاً ) لصالح معارضة ذات دينامية ميدانية فاعلة، تحدث هزات وارتدادات، تفرض على الاحتلال تحديات واستحقاقات لا يمكن التفلت منها. هذا من شأنه أن يعيد الثقة واليقين بالقيادة الرسمية، وأن ينشر في أرجاء المناطق المختلفة روح الانشداد إلى الميدان، بعدما باتت جدوى مثل هذا الاشتباك ملموسة بالعين المجردة، وما دامت التضحيات سوف تصب في خدمة المشروع الوطني، بعيداً عن هلوسات ورهانات أوسلو وأحلامه الفاسدة.

3 ـــــ إنهاء حالة الانقسام بالعودة إلى ما تم التوافق عليه في أكتر من محطة: حكومة وحدة وطنية، لفترة انتقالية، تشرف على انتخابات شاملة، رئاسية وتشريعية وللمجلس الوطني ( وفق نظام التمثيلي النسبي الكامل ) تعيد بناء المؤسسة على أسس ديمقراطية، بعيداً عن معادلات سقطت مع التطورات، وتعيد بناء الائتلاف الوطني، والشراكة الوطنية، وتعزز الموقع السياسي والتمثيلي لمنظمة التحرير بحيث تكون إطاراً لتوحيد كل مكونات الحالة الوطنية.

خطوات ثلاث، النضال من أجل تحقيقها، هو أيضاً أحد واجبات وأهداف الانتفاضة الثالثة، التي نشهد حراكها اليومي، بأشكاله المختلفة، وابداعاته الشعبية بما تحدثه من هزات في أركان سلطة الاحتلال.■

بقلم/ معتصم حمادة