تخطئ حماس إذ تظن أن بإمكانها أن تحتفظ بكل شيء، السيطرة و"المقاومة" والإدارة والشرعية والإعاشة والقبول والجوار الحسن، لا يمكنها أن تحتفظ بذلك أو تحافظ عليه، إذ لا يمكن لها أن تتصرف كحكومة إذا شاءت أو عصابة إذا شاءت، ولا يمكنها أن تحكم القطاع كوريث أو كبديل ثم في لحظة أخرى تطلب الإعانة والإغاثة، لا يمكن للحركة أن تطلب أن تكون جزءاً من النظام الفلسطيني ثم تتصرف على أساس أنها جسم موازٍ أو بديل أو وريث.
ولا يمكنها أن تخدع الجمهور طيلة الوقت بذات الشعار أو بذات الأسلوب، لقد نسيت حركة حماس في خضم زهو التعامل الإقليمي معها، أنها تسيطر على مقدرات قطاع غزة وأنها تمارس السلطة بمعناها القهري، أي جباية الضرائب واعتقال الناس وحتى إعدامهم، نسيت هذه الحركة أنها تحكم على الدم والمال في القطاع، ولهذا، خرج الناس الجوعى والمتعبون والفقراء يطالبونها بتقديم الخدمات الأساسية لحدٍ أدنى من الكرامة البشرية، خرج الناس – دون تمويل أو تغطية أو ترتيب ودون قيادة ميدانية – ليعلنوا أن حركة حماس تمارس دجلاً ما، أو تحاول أن تفرض عليهم كذبة كبيرة لم يعد بالإمكان تغطيتها، كذبة تقول أن المقاومة شعار صحيح إذا تساوى في تكلفته الجميع، وتعادل فيه الناس كلهم من حيث المغنم أو المغرم، إذ لا يمكن اختزال الأسئلة الكبرى والمؤلمة من خلال القول أن المقاومة هي الجواب.
وإذا كان الجواب هو المقاومة – لنفرض جدلاً – فإن ذلك يعني أن يكون هناك اقتصاد مقاومة وإدارة مقاومة وسلوك مقاومة، وهذا يعني العدل في التوزيع، التقشف في المصاريف، التساوي في الحقوق، الخضوع للقانون، النزاهة في السلوك، والصدق في المعاملة، فلماذا يختفي كل ذلك؟ ولماذا تُقسم الثروة بين الناس بطريقة غير مفهومة. ولماذا يغتني بعض الناس ويفقر أُناس آخرون؟؟
إن حركة حماس التي فوجئت بسلوك الجمهور في غزة، أدركت أن شعاراتها سقطت في أول اختبار جماهيري فعلي، ذلك أن الجمهور الفلسطيني الطيب والمعطاء والقادر على معرفة الاتجاهات، يعرف متى يكون الشعار صادقاً ومتى يكون لمجرد الاستهلاك الكلامي أو التلفزيوني.
لقد أعطى هذا الجمهور كل ما طلبت حركة حماس منه في التصدي لثلاثة حروب قاسية منذ سنة 2008 وحتى 2014، وتحمل أوجاع الحصار لمدة 12 عاماً، ومنح كل ما في عروقه من دم في مسيرات العودة على مدى عامٍ كامل، كل ذلك عندما كان الهدف واضحاً ويستحق المواجهة، أما عندما تجاوزت حماس ذلك إلى استغفال هذا الجمهور وابتزازه واستخدامه، فإن هذا الجمهور يعرف بالضبط كل التفاصيل.
حركة حماس التي تسيطر على القطاع، وما تزال، تعلّمت وتذوقت طعم السلطة والمال والنفوذ والحكم، والسلطة مفسدة كما يقال، ولهذا، فقد ظهرت أشكال المفاسد كلها، ورأى الجمهور كيف أن هذه الحركة تتآكل من الداخل ومن الخارج، من الداخل حيث التصفيات الغامضة والاعتقالات والانشقاقات الفردية والتجاذبات بين التيارات والأجندات، وكذلك في تغير الشعارات وانخفاض النبرة والاتفاقات والتفاهمات والوساطات، والاستئثار بالقرار ورفض كل شروط المصالحة واتفاقاتها.
رأى الجمهور كيف أن هذه الحركة تُغير من جلدها وكلامها، وتصريحاتها واتجاهاتها، كما رأى الجمهور تآكل الحركة من الخارج، حيث الاغتناء المفاجئ، وحيث السيارات الفارهة، وحيث التوزيع الظالم والمكشوف للمساعدات والأموال والأعمال.
تآكل الحركة التي تدعي المقاومة فوجئت بأن الجمهور يعرف كل شيء، وأنه حان الوقت لأن يطالب هذا الجمهور بمجرد العيش الكريم، ولهذا كان الشعار البسيط والساحق والحاد والحارق "بدنا نعيش".
كان من اللافت أيضاً أن سلوك حماس تجاه هذا الحراك كان بهذه القسوة والعنف، وكأن ذلك جزءاً أو مظهراً آخر من مظاهر تآكل الحركة التي جن جنونها، فقامت بما تقوم به الأنظمة الدكتاتورية، إذ اتهمت هذا الحراك بأنه ممول أو مسيس أو مغطى، أو أنه جزء من مؤامرة فصائلية، أرادت حماس بسرعة أن تنزع شرعية هذا الحراك وتجعله وكأنه مستورد أو مُهرب، ولكنها لم تستطع أن تقرأ المشهد أو تراجع سلوكها.
القمع الذي استخدمته حركة حماس هو جزء من عقلية الريبة والتوجس التاريخية لجماعة سياسية تدعي المرجعية الإسلامية، قامت على النفي والإلغاء والإقصاء وادعاء الحقيقة المطلقة.
حماس بفعلتها هذه تدمر ذاتها وتدمر مشروعها، كما تعطي الفرصة كاملة لأعداء شعبنا ووطنا بالتهيئة لكل ما من شانه تعميق الانفصال وضرب وحدة الوطن الجغرافية والديموغرافية والسكانية.
ما الحل؟ هذا هو السؤال، الحل برأيي إما الشراكة الوطنية الحقيقية من خلال إعطاء الحكومة الشرعية فرصة بسط سيادتها وتقديم خدماتها للشعب، وإما أن تستفرد حماس بقرارها الذي لن تجد غير أعداء الوطن لمشاركتها فيه.
أُعيد هذا الكلام بطريقة أخرى، أمامنا حلّان: إما المصالحة الوطنية والشراكة الحقيقية، وإما الذهاب إلى المجهول، وهو مجهول أصبح معروفاً، فلا يخفى على أحد ما بين السياسات الإسرائيلية والتوجهات الحمساوية من توافق، ليس من خلال تنسيق معين، إنما من خلال تلاقي المصالح، ونحن – وبكل صدق – نربأ بأية حركة أو فصيل فلسطيني أن يتردى إلى الهاوية، لأنه سيأخذ معه جزءاً من الوطن.
تعالوا بنا جميعاً نحافظ على ما تبقى لنا من وطن، ونحتكم لصندوق الاقتراع كمخرج وحيد من هذه الأزمات التي تحيط بنا.
اللواء د. محمد المصري
21/03/2019