تتصدر إشكاليات المسألة المائية الأولويات، فهنالك أكثر من 80 دولة يوجد بها 40% من سكان العالم تعاني نقصاً شديداً في المياه. وبافتراض استمرار طرق الاستهلاك المائي الراهنة سوف يتعرض5 مليارات شخص لنقص المياه مع حلول العام 2025. ويتوقع أن يكون للتغير المناخي تأثيرٌ على التوزيع الموسمي لسقوط الأمطار، إذ ستزداد فترات الجفاف جفافاً وستزداد الفترات الماطرة مطراً، وسيكون تأثير الفيضانات أكبر سوءاً من تأثيرها على الكمية الإجمالية للمياه المتاحة، مما سوف يضع كثيراً من علامات الاستفهام حول:
- الأمن الإنساني بمفهومه الواسع.
- الخطورة المحرجة للغاية لنوعية الصراعات المستقبلية؟
كما ويتضح أن دورة الماء عبارة عن منظومة معقدة يجب فهمها جيداً من أجل إمكانية إيجاد مقاربة منطقية وحلول مستدامة. وهنا، لا بد أن يتم التركيز على مجموعة واسعة من الخيارات التي لها علاقة ببنية أزمة المياه العالمية وكيفية التنبؤ بها. فعندما يتم التفكير بأزمة ندرة المياه من الضروري ألا ينحصر التركيز على النقص المطلق بين إجمالي الحاجات والإمدادات المتوافرة، وإنما ينبغي التركيز على:
- مكان وجود الماء النظيف القابل للاستعمال وتكاليف جلبه إلى التجمعات السكانية؟
- عدم ضمان إمكانية الوصول لماء الشرب فقط بل وضمان ما يكفي لزراعة الأغذية أيضاً.
ومن خلال النظر إلى آلية العلاقة المتبادلة بين التعقيدات المائية، يمكن تحديد الخصائص المميزة للمسألة المائية والعوامل التي يمكن أن تساعد على حلها. وبالتالي من أجل فهم أزمة المياه يجب التمييز بين مشكلتين مختلفتين وتتطلبان حلولاً متنوعة:
- الأولى: كيفية الحصول على مياه الشرب الميسورة التكلفة(أي مشكلة خدمات).
- الثانية: كيفية تأمين مصادر ضخمة جداً للمياه لزراعة الغذاء(أي مشكلة ندرة المياه).
وبناءً على تلك المشكلات يمكن تصنيف الأزمات المائية على النحو التالي:
- أزمة الوصول للمياه.
- أزمة تلوث المياه.
- أزمة ندرة وقلة المياه.
وبالنظر إلى تصورات المخاطر العالمية المستقبلية من حيث القدرة على التأثير، تم تصنيف أزمات المياه على أنها الخطر الأكبر الذي سوف يواجهه العالم في المستقبل القريب. ومع ذلك حالياً ليس هنالك فهم جيد لأبعاد التحديات المائية، والتي إن كانت تتشابه أعراضها وتتوافق مع أعراض التغيرات المناخية ولكنها تفوقها في تعقيداتها. كما أن واقع الأزمات المناخية يجعل من المسألة المائية قضية سياسية ساخنة، وهذا يتطلب وعياً مائياً واسع النطاق والتسليم بأن تغير المناخ حقيقي وباقٍ. عندئذ على الأرجح قد يتم أدراك أن تخفيض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري يدور كله حول الطاقة، إلا أن التكيف مع تغير المناخ سيكون جميعه حول المياه. فإذا كانت أزمات الغذاء العالمية 2008 - والتي بدت وكأنها قد حدثت بسبب إنتاج الوقود الحيوي من الحبوب - تقيم الدليل على ما هو عرضة للخطر إلا أنه من السهل أن تحدث الأزمة القادمة بسبب ندرة المياه وكيفية استخدامها؟.
ولكن إذا كانت إشكاليات المسألة المائية واضحة للعيان وبشكل جلي لا لبس فيه، فكيف يمكن تبرير هذا التباطؤ في المعالجة. فإذا كانت قد احتاجت الهيئة الدولية للمناخ IPCC ما يقارب 30عاماً من العمل قبل أن يأخذ العالم أزمة المناخ على نحو جاد، فما هو الحال بالنسبة للمسألة المائية؟ وإذا بات واضحاً للعيان - إلى حد ما- تصدر المسألة المناخية الأجندة السياسية العالمية فلماذا نادراً ما يتم التفكير بالمسألة المائية بكونها تحدياً سياسياً عالمياً، ولماذا لم يتم وضع هذه القضية في أولوية الأجندة العالمية؟ علماً بأنهُ كان هنالك سابقاً إدراك أولي للأبعاد السياسية والاجتماعية لأهمية القضايا المائية، يفوق الإدراك الذي كان موجوداً لأبعاد مشكلة التغير المناخي.
ويبدو بمكان ما، أن هنالك صعوبة في تفسير هذا التقاعس خارج إطار إشكالية التساؤل عن: التهديد المائي يهدد من أولاً؟
ما يلفت الانتباه بشكل واضح هو ذلك التناقض في التعامل مع القضايا العالمية الإنسانية. فعلى سبيل المثال دول مجموعة الثمانية G8 دائماً تدرج قضايا الإيدز على جدول أعمالها، ناهيك عن استنفار العالم بأكمله على خلفية انتشار وباء انفلونزا الطيور والخنازير وإيبولا وزيكا..الخ. وبالمقابل يوجد تغييب عالمي على مستوى إيجاد مقاربة وحلول جذرية للمسألة المائية. وفي هذا السياق لا بد من الآخذ بعين الاعتبار أننا أمام فجوة إنسانية جديدة. فإذا كان هنالك فجوة رقمية بين الأغنياء والفقراء وبين الدول، ولكن هنالك أيضاً فجوة جديدة يمكن تسميتها بالفجوة المائية وهي تزداد اتساعاً.
فالتهديد الحقيقي لمسألة المياه يكمن في أن الأزمات المائية هي أولاً وبشكل مباشر أزمة الفقراء قبل الأغنياء، سواء على صعيد الإفراد أو الدول. والأسوأ من ذلك، أن العديد من دول العالم النامي لا يحظى الأشخاص الأكثر فقراً فيها بحصة أقل من المياه فقط، بل يدفعون أغلى الأسعار. فهناك فجوة مائية صارخة للعيان ما بين الشمال والجنوب وما بين الأغنياء والفقراء، فاعتبار إشكالية المسألة المائية تقتصر فقط على أزمة شح المياه، هي نظرة ناقصة تبتعد كلياً عن حقيقة ارتباطها ارتباطاً وثيقاً بالفقر والقوة واللامساواة وقضايا المعرفة والمسؤولية والمواطنة.
فالمشكلة لا تكمن في كمية الموارد المتوافرة في الطبيعة بحد ذاتها، وإنما أيضاً في مجموعة من العوامل التي تحول دون استغلالها والاستفادة القصوى منها، وهذا تصنيف علمي يستوجب معالجة جذرية وزيادة في الاستثمار المائي الذي تأخر حدوثه.
في المحصلة يمكن القول أن واقع العلاقة بين البيئة والماء يتسم بالتعقيد وهو قائم على ثنائية: الإنسان / الطبيعة. فنحن الآن في عصر الإنسان الذي بلغت ضغوطاته على النطاق البيئي المائي حدَّ تحوله إلى قوة جيولوجية هائلة تلقي بظلالها على الفضاء الجديد للعلاقات الدولية. ، وهي تعبر عن نسق جديد في مقاربة القضايا العالمية الشائكة، أقلة على صعيد الأيدلوجيات. إذ يتضح مدى حاجة الإنسانية إلى وجود نسق أخلاقي ثقافي بيئي عالمي، وهذا قد يكون ممكناً سواء على المستوى الفكري أو الفعل السياسي، ذلك بسبب أنه يذكر الإنسانية بأنها تعيش في المركب نفسه على الرغم من كل الإشكاليات والمقاربات المختلفة.
سلام الربضي باحث ومؤلف في العلاقات الدولية