أية استحقاقات في انتظار حكومة اشتيه؟

بقلم: معتصم حمادة

(1)

■ بدأ الدكتور محمد اشتيه مشاوراته مع الفصائل الفلسطينية وفعاليات المجتمع المدني لتشكيل الحكومة الجديدة. من بين من التقاهم الجبهتان الديمقراطية والشعبية لتحرير فلسطين.  ولم يعلن أي من الفصائل حتى الآن، موافقته على المشاركة في الحكومة ماعدا جبهة النضال الشعبي، التي رشحت لهذه المهمة أمينها العام، وعضو اللجنة التنفيذية في م.ت.ف، د. أحمد مجدلاني. أما الجبهتان، الديمقراطية والشعبية، فقد أعلنتا مقاطعتهما الحكومة الجديدة، وعدم مشاركتهما فيها، وقدمت كل جبهة، من جانبها، لرئيس الحكومة المكلف وجهة نظرها التي تشرح أسباب المقاطعة وعدم المشاركة.

وطبقاً لما تسرب من وراء جدران المشاورات، فإن الأجواء أشارت إلى أن الحكومة الجديدة، وطبقاً لكتاب اشتيه رداً على كتاب التكليف، إلى رئيس السلطة، تقف أمام استحقاقات كبرى، تتجاوز حدود مهمة أية حكومة، أياً كان رئيسها، وأياً كان وزراؤها. كما تتجاوز قدرة حكومة ذات صلاحيات منصوص عليها في القانون الأساسي، خاصة في القضايا السياسية الكبرى، التي تطال الأوضاع الداخلية في م.ت.ف، ومؤسساتها، والواقع المأزوم للنظام السياسي الفلسطيني، والأزمة السياسية القائمة بعلاقاتها المعروفة، إن في الجانب الوطني، تحت وطأة الاحتلال، ومسار صفقة ترامب، أو بما يتعلق بقضايا الانقسام، والعلاقات المأزومة بين فتح وحماس، وواقع الانقسام بين الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، دون أن نتجاهل قضية (بل قضايا) القدس شديدة التعقيد. هذا إذا لم نعرج على أوضاع الشتات الفلسطيني الباحث لنفسه عن مؤسسات وطنية توفر له الغطاء السياسي، خاصة في ظل سياسة هوجاء، ذات منحى احتوائي، أعلنت عنها دائرة المغتربين، في صيغتها الجديدة، والتي حاولت أن تصنع لنفسها انطلاقة «مميزة»، بعد إحالة صلاحيات إدارتها إلى أحد مستشاري الرئيس عباس، وغير عضو في اللجنة التنفيذية، ليتبين أنها سرعان ما اصطدمت بالواقع الذي أصرت على تجاهله، وهو أن الجاليات الفلسطينية في الخارج، ليست ملكاً مستباحاً لهذا الطرف أو ذلك، بل هي حركة جماهيرية منظمة واعية ومدركة لواقعها وأهدافها، ولا يمكن لأي طرف أن يلتف عليها، أو يتجاوزها ــ أياً كان عنوانه، وأياً كان غطاؤه.■

(2)

■ الدكتور اشتيه يدعو لحكومة عمادها الأساس ممثلو فصائل م.ت.ف، مؤكداً أنها لن تكون لفتح وحدها، بل للكل الفلسطيني ــ لكن هذا التوصيف الذي يطلقه الرئيس المكلف يتناقض مع الواقع العملي لمنظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها. إذ كيف يمكن قيام حكومة فصائلية معافاة، في الوقت الذي تشكو فيه م.ت.ف غياب العافية، وتشكو العديد من المشاكل والمعضلات، ويتضاءل نفوذها يوماً بعد يوم، كما يتضاءل يقين وقناعة الشارع الفلسطيني بدورها وقدرتها على قيادة المسيرة الوطنية.

ففي الجانب المؤسسي بات واضحاً أن المنظمة تقاد بالمراسيم الرئاسية، وليس عملاً بتاريخها العريق، بمبادئ الوفاق والتوافق الوطني، عبر الحوار والتفاهم.

فاللجنة التنفيذية، على سبيل المثال، تشكو من أمراض، حتى الآن، لا أفق يبشر أنها مقبلة على الشفاء منها.

• فهي لا تعكس الخريطة المؤسساتية كما تمثلها فصائل م.ت.ف، وهي مركبة بطريقة أضعفت دورها، وزادتها تهميشاً.

• تراجع دورها أكثر فأكثر، وأصبحت مجرد هيئة تشاورية، تعقد اجتماعاتها، برئاسة أمين سرها، الذي ينقل «اقتراحاتها» إلى رئيسها، والذي يتولى، منفرداً، إقرار ما يشاء، بمرسوم رئاسي، ورفض ما يشاء، ما حول نظام م.ت.ف من نظام برلماني، يقوم على مجلس وطني، تقابله لجنة تنفيذية، وبينهما هيئة وسيطة هي المجلس المركزي، إلى نظام رئاسي، أقرب إلى النظام الدكتاتوري، الذي لا حدود لقراراته ومراسيمه.

• انتزعت منها الدوائر الفاعلة التي تقيم الصلة المباشرة بينها وبين الشعب الفلسطيني، في مناطق تواجده. ألغيت الدائرة السياسية، التي كانت معنية بتمثيل م.ت.ف ( أي كل الشعب الفلسطيني داخل وخارج) في المحافل الدولية، وأحيلت إلى وزارة خارجية السلطة، ذات الولاية المحدودة، بحدود المنطقة (أ) في الضفة الفلسطينية، فضلاً عن كونها ليست هي الممثل الشرعي والوحيد بل هي مجرد إدارة ذاتية محدودة الصلاحيات وفقاً لتطبيقات إسرائيل لاتفاق أوسلو. نزعت منها دائرة الثقافة، التي كانت مدخلاً لأوسع علاقات وطنية تفاعلية بين المنظمة وبين ملايين الفلسطينيين، وأحيلت إلى وزارة الثقافة في السلطة الفلسطينية، والتي لا تتجاوز أنشطتها حدود مدينة رام الله  الواقعة تحت حراب الاحتلال الإسرائيلي. كذلك نزعت منها دائرة الإعلام، ذات الوظيفة التفاعلية مع العالم الفلسطيني بانتشاره الواسع، وأحيلت حصراً إلى وزارة الإعلام الفلسطينية، ومنها إلى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، الخاضعة لهيمنة اللون والطرف الواحد، والتي يقوم أداؤها وفق لوائح خضراء، ولوائح سوداء، تطال حتى الأعضاء في اللجنة التنفيذية نفسها. بل تحولت المؤسسة الإعلامية الفلسطينية من مؤسسة لشعب تحت الاحتلال، وفي منافي اللجؤ، إلى مجرد آلة رسمية معنية بالتعبير عن الرأي الرسمي الواحد، وتشويه الرأي الآخر.

والأمر نفسه ينطبق على دائرة التعليم، التي تبخرت، وعبرها تبخر دور م.ت.ف في إسناد العملية التعليمية لملايين اللاجئين الفلسطينيين في الخارج.

وواضح أن كل هذه الخطوات وغيرها، ليست مجرد قرارات معلقة في الهواء، بل هي سياسة واعية ومدركة جيداً لأهدافها، تنسجم كثيراً مع توجهات أوسلو، وتوجهات سقفه السياسي لحل «قضايا الحل الدائم»، الذي يغامر بمستقبل القضية، بما في ذلك معالم الدولة المستقلة وحق العودة.■

(3)

■ في السياق نفسه تراجعت إلى حد كبير قواعد الائتلاف الوطني، وضعفت جداً مبادئ الشراكة الوطنية، لصالح سياسة التفرد والاستفراد. وضاقت صدور القيادة الرسمية، بحيث باتت تعمل على تقويض قيم ومفاهيم الديمقراطية من خلال فرض الحصار المالي على المعارضة، ومواجهة معارضتها السياسية بسياسات كيدية، هبطت إلى حد كبير بالعلاقات البيئية، ووترت الأجواء السياسية، وتجاوزت حدود النقد المسؤول نحو سلوكيات طفولية بائسة، لا ندرك الأبعاد الحقيقية لهذه السلوكيات ومدى خطرها على الواقع الوطني برمته.

فإلى جانب التفرد بقرارات الصندوق القومي (صندوق كل الشعب ومؤسساته الوطنية) وإلغاء مجلس إدارته، في مخالفة صارخة للنظام الداخلي لمنظمة التحرير الفلسطينية، جرى ابتداع هيئات بديلة نصبت على أنها الهيئات القيادية الرسمية. منها على سبيل المثال «المطبخ السياسي» الذي نصب نفسه بديلاً للجنة التنفيذية والمرجعية العليا لها. منها بدعة «القيادة الرسمية» التي تتشكل وفق الأهواء، فتضم صفاً واسعاً من أعضاء اللجنة المركزية لفتح، ووزراء السلطة، وبعض أعضاء اللجنة التنفيذية (المقربين) وكبار ضباط الأجهزة الأمنية، وبعض المستشارين، وغيرهم، دون مرجعية قانونية أو تشريعية لمثل هذه التراكيب، التي يمكن أن تتغير بين ليلة وضحاها، فتستبعد من تستبعد، وتقرّب من تقرب، وفقاً للمزاج السياسي القائم على الرؤية الفردية، وعلى امتهان قيم الائتلاف والشراكة الوطنية.

على الجانب الآخر، جرى تعطيل «هيئة تفعيل م.ت.ف»، وهي الهيئة التي تشكلت بقرار الإجماع الوطني في شهر آذار/مارس 2005 في الحوار الوطني الذي احتضنته القاهرة وحضره إلى جانب باقي أعضاء القيادة الفلسطينية، رئيس السلطة المنتخب حديثاً محمود عباس. وهي هيئة تتشكل من اللجنة التنفيذية في م.ت.ف، والأمناء العامين، ورئيس المجلس الوطني الفلسطيني، وعدد من الشخصيات المستقلة، جرى التوافق على تسميتها. عقدت هذه الهيئة سلسلة اجتماعات ناجحة، خلالها اتخذت العديد من القرارات، منها برنامج لإنهاء الانقسام، وتعديل قانون الانتخابات لصالح نظام التمثيل النسبي الكامل، وإعادة صاغة المجلس الوطني ليصبح أكثر حيوية وتمثيلاً، عبر الانتخابات الديمقراطية والحرة والنزيهة والشفافة. وغيرها من القرارات التي مازال كثير منها حبراً على ورق، لأن القيادة الرسمية التي بيدها زمام القرار، لم تحول هذه القرارات إلى أنظمة سارية المفعول، عبر الطرق النظامية كما تقرها آليات عمل السلطة الفلسطينية، وكما تقرها آليات عمل اللجنة التنفيذية.

ومنذ العام 2013 مازالت هذه الهيئة معطلة، رغم النداءات العديدة، بضرورة دعوتها إلى الاجتماع لبحث الحالة الوطنية وأزمتها السياسية و البرنامجية. فالقيادة الرسمية التي بيدها زمام القرار (هنا رئيس اللجنة التنفيذية) تحجم عن دعوة الهيئة القيادية لا لشيء، سوى لأنها لا تريد أن تقيد نفسها بقرارات الإجماع الوطني، وتصر على السير منفردة في إدارة الشأن العام، إما عبر مراسيم عليا بديلاً عن اللجنة التنفيذية (في مخالفة فاقعة للقانون والنظام) وإما عبر مراسيم وقوانين حكومة السلطة الفلسطينية.■

(4)

في الجانب السياسي تبدو الأمور أكثر تعقيداً، والأزمة أكثر تفاقماً، وفاقعة كثيراً، تؤكد إصراراً القيادة الرسمية على انتهاج سياسة التفرد والاستفراد، وتهميش الكل الفلسطيني، وقرارات الإجماع الوطني، لصالح قرارات المطبخ السياسي.

فمنذ 5/3/2015، مروراً بـ 15/1/2018، وصولاً إلى 30/4/2018، السائد هو تعليق وتعطيل قرارات المجلسين المركزي والوطني، بإعادة تحديد العلاقة مع دولة الاحتلال، وإنهاء العمل باتفاق أوسلو، والتحرر من قيوده، والتزاماته السياسية والمالية والاقتصادية والأمنية، واسترجاع البرنامج الوطني، أي برنامج الكل الفلسطيني، واستنهاض الانتفاضة والمقاومة، وتدويل القضية في الأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية.

ولا تقف سياسة التفرد والاستفراد، عند تعطيل القرارات، بل تذهب إلى انتهاك هذه القرارات، من خلال إطلاق «روئ سياسية» (رؤية الرئيس) في 20/2/2018، أمام مجلس الأمن، في استعادة فاقعة لمشروع أوسلو، والمفاوضات الثنائية، بديلاً لبرنامج الكل الفلسطيني.

ويتواصل الالتفاف على هذه القرارات، بلعبة إحالتها إلى لجان للدراسة، تحيلها هي الأخرى إلى لجان أخرى للدراسة. ولعبة عقد دورات متسلسلة للمجلس المركزي، تعيد وتكرر القرارات لكن بصورة أقل وضوحاً، وبصورة أكثر غموضاً، متجاوزة النصوص الواضحة، لتبرير سياسة المماطلة والتعطيل والتسويف، والتلاعب على الألفاظ، والتسلل من خلف ظهر الجميع نحو وساطات مشبوهة، لا وظيفة لها سوى تبرير سياسة انفتاح بعض الأنظمة العربية على دولة الاحتلال.

 في الوقت نفسه تواصل الإدارة الأميركية توجيه الصفعة تلو الصفعة للحالة الوطنية، في صفقة ترامب، وما تلاها من خطوات بشأن القدس، وقضية اللاجئين، وحق العودة، ووكالة الغوث، والمستوطنات، ومكتب م.ت.ف في واشنطن، والحصار المالي على السلطة، تواكبها حكومة الاحتلال بسياسات التغول الاستعماري الاستيطاني، وتهويد القدس، ومحاولات الاستيلاء على الأقصى، وأملاك الكنيسة، والوقف الإسلامي، وتهويد الخليل، ومصادرة المنطقة (ج) وانتهاك التزامات أوسلو الأمنية، وفرضها على الجانب الفلسطيني وحده، ووصم النضال الوطني بالإرهاب لتبرير السطو على أعمال المال العام الفلسطيني.

سياسة المراوحة في المكان، والرفض اللفظي، والرهانات الفاشلة، هي البديلة لقرارات المجلسين الوطني والمركزي، مع إغلاق كل الآليات وتعطيل كل الوسائل التي تمكن من تحويل الضغط الشعبي إلى قوة فاعلة ومؤثرة، بما في ذلك تعطيل العملية الديمقراطية، وتنحية صندوق الانتخابات جانباً، على غرار انقلاب القيادة الرسمية على أعمال اللجنة التحضيرية للمجلس الوطني في بيروت (كانون الثاني/يناير/ 2017) التي دعت إلى حكومة انتقالية للإشراف على الانتخابات الشاملة الرئاسية والمجلسين التشريعي والوطني، بنظام التمثيل النسبي الكامل، بما ينهي الانقسام.

■   ■   ■

وأخيراً، وليس آخراً:

هل تملك حكومة اشتيه، أو أية حكومة أخرى، بالصلاحيات المعروفة، أن تعالج كل هذه الأمور في جوانبها المؤسساتية والسياسية، وأن تخرج النظام السياسي الفلسطيني من أزمته، وأن تعيد قيادة السفينة نحو البرنامج الوطني كما توافقت على قراراته دورات المجلسين المركزي والوطني.

وإذا كانت النوايا سليمة، فلماذا أحيلت هذه المهام إلى حكومة مختلف على مبدأ تشكيلها، ولا تحال إلى الجهة المعنية بذلك أي «هيئة تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية»، الصيغة القيادية الفلسطينية الرسمية الأعلى؟

إنها خطوة جديدة في سياسات التسويف والمماطلة، وخلط الأولويات واستبعاد الملّح منها، لصالح الجزئي. فالمدخل هو معالجة الأزمة السياسية المستفحلة، أي أزمة النظام، وأزمة البرنامج، وأزمة المؤسسة، وأزمة الأداء القيادي في منحاه القائم على التفرد والانفراد، وتهميش القوى والمؤسسات، والاستخفاف بالحركة الشعبية والرأي العام.■

بقلم/ معتصم حمادة