على الرغم من احتمال الصوابية فيما يقال عن الحراك وأصحابه، وعن ارتباطه بأي جهة معادية لغزة وأهلها ومقاومتها وحكمها، إلا أن الحكمة والموضوعية تستدعيان التفكير الموضوعي النزيه فيما يطرحه الحراك من مطالب، وفيما يوجهه أصحابه لحركة حماس من نصح أونقد، فإن كانت المطالب مطالب حق جرى التسليم بها وتم إنجازها أو كان وعد الحر لإنجازها أو صادق المحاولة لتحقيقها، ولكن دون قمع من يتظاهرون دفاعاً عن حقهم في المطالبة بإنجازها أو في التعبير عن رأيهم حيالها.
وعلى الرغم من احتمال الصوابية، أيضاً، في قول حماس بأن وراء الحراك مؤامرة حيكت أو تحاك ضدها وضد غزة وأهلها ومقاومتها، فإن حركة حماس ليس في مكنتها أن تنفي وجود ما يتحدث عنه الحراك من وضع معيشي مأساوي، الأمر الذي يحتم على حركة حماس أن تُعمل الموضوعية فتنظر إلى الحالة المأساوية التي يتحدث عنها الحراك دون اعتداء على أصحابه.
وعلى الرغم من أننا نؤمن يقيناً أن من يكيدون للمقاومة يحاولون ما أمكنهم إحداث خلل في مجتمعها وفي حاضنتها بغية أن يسهل عليهم اختراقها وطعنها، وعلى الرغم من أننا نعلم يقيناً أن غزة هي الرئة التي يتنفس الشعب العربي كله منها هواء الحرية والكرامة الوطنية، حيث إنها البقعة الوحيدة في كل أرضنا العربية التي لا احتلال فيها، وعلى الرغم من أننا نعلم يقيناً أن غزة التي تقاتل باستبسال وتستشهد بعزة وكرامة من أجل فلسطين والكرامة العربية إنما تقاتل وحيدة بعد أن خُذلت خذلاناً لم تكن قد تخيلته حتى في أحلك كوابيسها، إلا أننا نريد لغزة – قلعة الصمود والشموخ والعزة – أن تحتفظ لنفسها بصورة المقاوم التي لا يستطيع أحد أن يشوهها فتنال - ولو ما تضاءل - من صورة الظلم عليها، ذلك أن المقاومة والظلم لا يلتقيان أبداً ولا يجتمعان، فالظالم لا يقاوم كما المقاوم لا يظلم.
فإذا كان الظالم لا يقاوم والمقاوم لا يظلم، فإن على حركة حماس التي تقاوم أن تترفق بمن مِن وجعه آنَّ ولم يشعر به أحد فصرخ، ومَن مِن بؤس حاله جُن فبمشاعره المجنونة عبر، وبمن ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وقبل ذلك وبعده، فلتبقَ حركة حماس عالمةً - وبيقين - أنها إلى الشعب ستبقى في أشد حاجة، وأن الغلظة والعصا والإذلال والفظاظة لا مجال لشعبنا الحر المقاوم أن يقبلها، فضلاً عن أنها لا ولن تثمر عدلاً، بل تشعل لهيباً يتزايد ويمتد ويتسارع فلا ينطفئ، وتعمق الجرح وتلوثه فلا تداويه ولا تضمده، وتضاعف الكسر ولا تطهره ولا تعين على التئامه.
وحيث أشارت حركة حماس في بيانها للرأي العام إلى ما وصفته بـ "خطة شاملة أعدتها السلطة وأجهزتها الأمنية لإحداث القلاقل في غزة وإعادة الفلتان الأمني إليها"، فإننا نرى أن حركة حماس يتوجب عليها أن تنهض بواجبها تجاه شعبنا في غزة لتوضيح هذا الأمر، مستعينة بتفاصيله وموثقاته مع إبراز دليلها على قولها "أن رام الله قد حددت يوم الخميس 14/3/2019 موعداً لإنفاذ مخططها وإطلاق الفلتان الأمني الذي قالت عنه إن سلطة التنسيق الأمني قد رعته بقيادة مخابراتها ورئيسها ماجد فرج".
وحيث إن البيان الذي أصدرته حركة حماس للرأي العام قد ذكر أن "حجم الكذب والتشهير الذي مارسته آلة قيادة فتح الإعلامية وتلفزيون السلطة والذي كشفته صور التزوير التي استدعيت من أحداث سابقة ومن دول مختلفة وإسقاطها على غزة يعكس ما تختزنه هذه القيادة من حقد دفين على غزة بكل توجهاتها"، فإن إبراز الدليل على هذا إنما هو أمر يصب في صالح حركة حماس ويدعم مصداقيتها إذ يكشف المستور من عوار غيرها إن وجد، ويُعَد كسباً لها في مواجهة تقولات واتهامات من سواها المصوبة نحوها.
وحيث إن التشكيك في توجهات حماس وفي جهدها المتواصل - حسب بيانها - للتخفيف من معاناة شعبنا قد أصبح اللغة التي يستعان بها للهجوم على حماس وتشويه صورتها في عيون شعبنا الصابر المرابط المقاوم، فقد بات واجباً ولازماً على حركة حماس أن تبين للناس الحقيقة التي ترد بها على كل من همهم تشويه صورتها والإساءة إليها وعلى كل من يتساوقون مع تشويه صورتها عن عمد وعن علم أو عن غياب المعرفة بسبب السذاجة أو الجهل.
وحيث إن بيان حركة حماس للرأي العام قد عبر عن "أسف الحركة لأي أحد أصابه ضرر مادي أو معنوي"، كما طالب الأجهزة الأمنية "بإعادة الحقوق المادية والمعنوية لمن وقع ظلم عليهم"، فإن في هذا الأمر نقطتين نرى أن من الأهمية أن نشير إليهما: أما النقطة الأولى فهي أن تعلم حركة حماس أن اعتذارها (وليس أسفها) عن أي ضرر أصاب أياً من أبناء شعبنا هو الذي يعبر عن حقيقتها وعن قيمتها وهو الذي يتناسب مع كبر حجمها وعظم مسؤوليتها، وأما الثانية فهي أن هذه الحركة الكبيرة لا تطالب الأجهزة الأمنية بشيء ولا تدعوها، وإنما تأمرها به، خلافاً لما يمكن أن تتبعه مع مؤسسات حقوق الإنسان حيث تطالبها وتدعوها، ولكنها لا تأمرها.
إنه من غير الكافي أبدأ أن تعلن الحركة أن الذين اعتدوا على المواطن/ أحمد حلس هم في قبضة الأمن، وإنما على الحركة أن تمكن الشعب من الاطلاع على الحقيقة بمشاهدة الرواية الحقيقية والاستماع إليها من أفواه الفاعلين، وهو أمر ينطبق أيضاً على من اعتدوا على المواطن/عاطف أبوسيف، وكذلك على من ألقوا متفجرات وقنابل يدوية على رجال الشرطة، كما جاء في البيان.
وإذا كانت الحركة قد استنكرت ورفضت – في البند السادس من بيانها للرأي العام – كل أشكال الاعتداء على أي مواطن، مؤكدة أن "سيادة القانون هي التي تحكم وأن القضاء والنيابة يعملان بلا توقف في خدمة المواطنين ومتابعة شؤونهم"، كما جاء في البيان، فإن الاستنكار والرفض الحقيقيين إنما يأخذان قيمتهما الحقيقية من إخضاع كل ما حدث لحكم القانون، وهو ما قرأنا وشاهدنا كثيراً من الخروقات له وكثيراً من التجاوزات عليه.
وحيث إن الحركة قد أكدت في بيانها للرأي العام على الحق في التجمع السلمي وحرية الرأي، فإن من حق الشعب أن يمَكنَّ من مراقبة عما إذا كان ما حدث يوم الخميس 14/3/2019 هو تجمع سلمي وهو تعبير عن حرية الرأي أم غير ذلك بما يخالف القانون ويوجب المثول أمام العدالة للمحاكمة بما لا يوجب الضرب والشبح وسكب الماء البارد في جو قارس البرودة والإذلال والإهانة كما ورد في شهادات كثير من المحتجين المعتقلين الذين بلغوا ألفاً حسب التقارير التي أصدرتها بعض مؤسسات حقوق الإنسان العاملة في قطاع غزة.
وبعد: فماذا عن الصحفيين والعاملين في مؤسسات حقوق الإنسان الذين اعتقلوا وأهينوا فيما لم يكن لهم من جريمة اقترفوها غير أنهم كانوا يلبون نداء واجبهم الوظيفي والإنساني والوطني.
وأما آخر الكلام: فإنه ليس في مكنتي أن أنهي مقالتي هذه إلا بعد أن أقول لكبار حركة المقاومة الإسلامية (حماس) إنه إن كان ظنكم أنها المؤامرة، كما جاء في بيانكم للرأي العام، فلماذا لم تضغوا في الحسبان أن المتآمرين عليكم قد أعدوا ورتبوا وخططوا وربما أجادوا؟! وعليه، لماذا لا تحرصون على رد كيدهم دون أن تقعوا في أحابيلهم ودون أن توقعوا أهلكم ومقاومتكم في فخاخهم؟! ولماذا لا تفترضون أن من يتآمر عليكم قد أعد عدته ليصبح أكثر قوة وأكثر حرصاً وأكثر دقة وأكثر ترتيباً من كل ما فيكم وكل ما لديكم، ذلك أن من يتآمر عليكم إنما يكون قد مكن نفسه ووضع في جعبته ما ليس في تفكيركم وما ليس عندكم.
بقلم الدكتور/ أيوب عثمان
كاتب وأكاديمي فلسطيني
جامعة الأزهر بغزة
رئيس "جمعية أساتذة الجامعات – فلسطين"