تدمن غزة الوقوف على مفترقات الطرق مع ازدياد تعقيدات تشابك الملفات السياسية والأمنية والإنسانية، وفي ظل استمرار مخاض خطط إعادة ترتيب المنطقة، وفرض الحلول الـ"تصفوية" للقضية الفلسطينية.
تظهر غزة كبقعة جغرافية "منذورة" بالشقاء، نتيجة احتدام الاشتباك القائم على أساس معارك "عض الإصبع"، التي تتنوع عناصر معسكرها المقابل لمعسكر المقاومة، من ممولين ووكلاء حروب، وداعمين "لوجستيين"، كل ذلك من أجل ترويض آخر جبهات الرفض "الصريح والحقيقي"، لشطب حقوق الشعب الفلسطيني، وإلحاقه بالـ"هالة" الصهيونية التي "من المخطط" أن تسير من ورائها المنطقة بكافة مكوناتها السياسية والاقتصادية.
ويبدو القطاع الصغير المساحة، ذو المليوني ساكن، حالة "محيرة" في أوقات كثيرة لأعدائه والمتربصين به، فبالنسبة لدولة الاحتلال هو "اللقمة" العصية على "الهضم"، حيث لا فائدة من التصعيد العسكري المحدود، ولا إمكانية للعدوان الواسع المكلف مادياً وسياسياً، ولا جدوى على المديين المتوسط والبعيد من إعادة احتلاله عسكرياً.
بينما لا تتوقف المحاولات التي تُحبك بأيدي أصحاب الخطاب الذي تشبع "بؤساً"، والذين يسعون للعودة إلى دائرة الفعل السياسي، بعد فقدانهم البوصلة، ووقوفهم على هامش التأثير السياسي، من خلال اللعب بورقة الشأن الإنساني، واستثارة الجماهير في القطاع الذي يعاني نتيجة الحصار الصهيوني، بهدف إضعاف خصمهم السياسي دونما اهتمام لعواقب تدهور الأوضاع الإنسانية التي يعيشها الغزيون.
غزة التي لا تكاد تلتقط أنفاسها، بين كل معركة، وعدوان، وإغلاق للمعابر، وتشديد للحصار، تفصح عن واقعها الإنساني المرير، مع كل عام من أعوام الحصار الجائر، لتكشف عن تصاعدية مؤشر الكارثة الإنسانية، وإلى أي حد وصلت.
فآخر الإحصائيات الصادرة عن الغرفة التجارية في القطاع، أمس الأول، تشير لمعطيات "مرعبة" لما بلغته أوضاع الغزيين، من فقر سجل خلال العام الماضي نسبة 53%، وبطالة بين الخريجين 69%، أما نسبة انعدام الأمن الغذائي فبلغت 68%، في مقابل ما يزيد عن مليون شخص يتلقون مساعدات من الأونروا والمؤسسات الإغاثية الدولية والعربية العاملة في القطاع.
وعلى الرغم من كون الأرقام صادمة، إلا أن مضاعفات الحدث السياسي، وتراكمات أشكال الابتزاز التي يتعرض لها أبناء القطاع، جعلت منها أمراً غير مفاجئ، فما عاشته وتعيشه غزة منذ ما يقرب 12 عام، هي عمر الحصار، تلخص عناوينها حجم التآمر، وعمق المأساة الإنسانية.
من أبرز هذه العناوين: تقليص خدمات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الاونروا(، وتوقف خدمات الدعم الإنساني التي تقدمها عدد من المؤسسات الإنسانية الدولية، كالـ (USAID)، وبرنامج الأغذية العالمي، وغيرها من المؤسسات، يضاف إلى ذلك خصم أكثر من 50% من رواتب موظفي السلطة في غزة، وفوق هذا وذاك تشديد دولة الاحتلال لحصارها على القطاع، وشن حروبها عليه من وقت لآخر، والحيلولة دون إعادة إعمار ما تدمره آلة الحرب الصهيونية.
ما حدث من عدوان صهيوني بالأمس، وما سبقه من اعتداءات وحروب على غزة، وكيفما جرى تحليله وتوصيفه، سواء أكان تحول القطاع إلى ساحة لتصفية حسابات سياسية، أم صندوق بريد لإرسال رسائل للاعبين دوليين وإقليميين، أو حسابات خاصة بالاحتلال ومنها تأثيرات العملية الانتخابية هناك، أو أي ظرف كان، فإننا كناشطين في مجال العمل الخيري نقرأ المشهد من منظور إنساني بحت، حيث العواقب لهذه الاعتداءات ذات كلفة إنسانية باهظة.
وتبقى آثار أي حرب أو عدوان على غزة الأعلى من ناحية التداعيات الإنسانية، حذرنا منها سابقاً، ونحذر دوماً، كون القطاع محاصر، وذو بنية تحتية ضعيفة، وتعاني قطاعاته الحيوية كالصحة والتعليم نتيجة الحصار منذ أكثر من عقد من الزمان، كما أن ما يتهدم فيه من منازل ستبقى تحت رحمة الحصار الصهيوني إلى أن تسنح الفرصة لإعادة إعمارها، وفي الغالب ستضاف إلى قائمة المنازل التي تنتظر الإعمار، فيما ينتظر ساكنوها في أي مأوى مؤقت هنا وهناك سنوات يعانون فيها التشرد.
تقع على صناع الخير، من دول وحكومات، ومنظمات وجمعيات خيرية، وأفراد، مسؤولية تضميد الجراح التي تخلفها الحروب والاعتداءات العسكرية، وتبقى الأسئلة ماثلة أمام أعين الجميع: من يكترث لجراح غزة؟ ومن لأيتامها؟ ولمرضاها؟ ومن يعيد الأمل لشبابها المتعطل عن العمل منذ سنوات طويلة؟ ومن يتضامن مع الغزيين ضد الحصار الجائر، ويصرخ من أعماقه: فليُرفع الظلم عن غزة، وليرحل السجن والسجان إلى الأبد، وإلى غير رجعة.
بقلم/ د. عصام يوسف