غزة على بر التهدئة، ولكنها تهدئة مشروط باستجابة الاحتلال الإسرائيلي لمطالب أسرانا، لقد أمهلنا الاحتلال مدة 72 ساعة لتحسين حياة الأسرى، ورفع التشويش عن الاتصالات، وتوفير حياة إنسانية في الأٍسر، ودون ذلك، فلا تهدئة! هكذا تكلم إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في لقاء ضم عدداً من الكتاب والمفكرين في قطاع غزة.
فما هذه اللغة التفاوضية الجديدة التي تحدث بها إسماعيل هنية؟ هذه أحجية غابت لسنوات طويلة عن المشهد الفلسطيني، ولاسيما حين تشترط غزة المحاصرة لنفاذ التهدئة؛ الاستجابة لمطالب الأسرى، بل وتحديد إطار زمني لرضوخ الاحتلال لشروط المقاومة، لعمرك إن هذا نمط جديد يجب أن يعتاد عليه الاحتلال، الذي لا يعرف إلا لغة القوة، وعليه فإن الجواب على السؤال الذي يدور في مخيلة الجميع: ما الضامن لالتزام الاحتلال الإسرائيلي بالتهدئة؟ وما الذي يمنع الاحتلال من النكوص على عقبيه بعد الانتخابات، ويمارس الحصار المألوف ضد غزة؟
إن الذي أجبر الاحتلال على إرسال الوفود الدولية والعربية لتحقيق التهدئة هي القوة الفلسطينية في غزة، سواء أكانت هذه القوة تتمثل بالمقاومة، والصواريخ التي انطلقت خللاً كما أكد إسماعيل هنية، أو انطلقـت قصداً باتجاه تل أبيب، ففي كلا الحالتين، فإن الصواريخ الفلسطينية قدمت نموذجاً للمستوى المتطور الذي وصلت إليه المقاومة الفلسطينية، وهذا أولاً، أما ثانياً، فإن تواصل مسيرات العودة، وقدرة الشعب الفلسطيني على ضخ مياه ثورية جديدة في عروق الأرض، هو بحد ذاته ضامن لإلزام العدو الإسرائيلي بالتقييد بشروط التهدئة، أما ثالثاً، فإنه يتعلق بالوحدة الوطنية الفلسطينية الميدانية، والذي تمثل بالهيئة الوطنية العليا لمسيرات العودة، وغرفة العمليات المشتركة، كل ما سبق هو الضامن لإلزام الاحتلال بعدم خرق التهدئة، إضافة إلى الدول والمؤسسات الدولية التي أشرفت على بنود اتفاق التهدئة.
إن إدراج موضوع الأسرى ضمن بنود التهدئة مع الاحتلال لا يعتبر نصراً للمقاومة فقط، بل هو انعكاس لقدرة المقاومة على الربط بين التهدئة في قطاع غزة، ومجمل القضايا الفلسطينية المصيرية، فشروط التهدئة تتجاوز حدود قطاع غزة، وتتجاوز محيط رغيف الخبز الذي تفتش عنه غزة، ليصل إلى أفق القضية الفلسطينية كلها، حين أصر الوفد الفلسطيني المفاوض أن يدرج موضوع القدس ضمن التهدئة، وأن يشترط على الاحتلال وقف الممارسات العدوانية ضد باب الرحمة في القدس، وهنا نقل إسماعيل هنية عن الوسطاء بأن الاحتلال أبلغهم بان موضوع القدس مطروح على طاولة التفاهمات مع الأردن، ونحن نحترم الأردن ومواقفه من القدس، لنؤكد أن المقاومة في غزة داعم لموقف الأردن، وظهير له في كل ما يتعلق بالقدس.
لفت نظري في حديث إسماعيل هنية، أنه كرر جملة: لا نثق بالاحتلال، ويدنا على الزناد، نحن أعرف الجميع بهذا العدو الذي يغتصب أرضنا، ولا نثق به مطلقاً، ولكننا فرضنا عليه إرادتنا، وأجبرناه على الاستماع لصوت فلسطين من خلال لقاء الوسطاء مع كل التنظيمات الفلسطينية، بحيث تكون التهدئة مع كل أطياف الشعب الفلسطيني، وليس مع حركة حماس لوحدها، وهنا لا بد من تثمين موقف حركة حماس، التي اعتمدت على الكل الفلسطيني في إيصال رسالتها، ولم تستأثر وحدها بالقرار، ولعل هذا الشكل من التفاهمات الداخلية الفلسطينية يرسل رسائله إلى الضفة الغربية، بأن الوحدة قوة، وأن التوافق الوطني يفرض إرادته رغم فوارق القوى الميدانية.
ولعل السؤال الذي وجد جوابه في حديث إسماعيل هنية، يتعلق بسلاح المقاومة، ما مصير سلاح المقاومة مع التهدئة، أين ستذهب صواريخ حماس؟ ما مصير الأنفاق؟ وأسئلة قد تجول في خاطر البعض، وقد يربط بينها وبين التهدئة، وهنا جاء التوضيح القاطع من إسماعيل هنية، حين أكد أننا في المقاومة الفلسطينية، لم نسمح، ولن نسمح لأي قوة على الأرض بأن تناقش معنا سلاح المقاومة، ولم يجرؤ أحد ليتحدث معنا عن سلاح المقاومة، ولم يتطرق أحد إلى الأنفاق، ولم يطرح الإسرائيليون مجرد استفسار عن سلاح المقاومة، أو عدم تطوير سلاح المقاومة وفق ما تقتضي الحاجة الفلسطينية، وفي هذ الحديث، تكون شروط الرباعية قد ماتت، وهي الشروط العفنة التي أزعجت القضية الفلسطينية لسنوات، وكانت شروط الرباعية سداً منيعاً في وجه أي لقاء فلسطيني داخلي، فإذا بالمقاومة الفلسطينية تخضع إسرائيل لشروط التهدئة، التي ستنام معها مدينة تل أبيب ومنطقة غوش دان بكاملها تحت رحمة صواريخ المقاومة.
ولما كان للتهدئة مع الإسرائيليين زاوية وضلعان؛ فإن مصر العربية هي زاوية التوصل |إلى الاتفاق، فشكراً لمصر، أما الضلع الأول للتهدئة فإنه يتعلق بموافقة الاحتلال على رفع الحصار، والضلع الثاني يتعلق بالجهات الدولية والعربية الممولة لحاجات السكان الإنسانية، وعلى رأسهم دولة قطر، فشكراً قطر، قطر النخوة والكرامة العربية، والتي استعدت لتمويل ما تحتاجه غزة من خطوط كهرباء، ووقود، وفرص عمل، وتطوير حياة، تؤمن الاستقرار في غزة، وتعزز من صمود الحاضنة الشعبية للمقاومة الفلسطينية.
د. فايز أبو شمالة