لا مواعيد مؤجلة للصفقة

بقلم: محمد السهلي

قالت الإدارة الأميركية إنها أجلت الإعلان عن صفقة ترامب لشهرين أو ثلاثة، مع أنها ماضية في تنفيذها منذ عامين.وقد رأى البعض في ذلك مراوغة أو تسويفا لصالح حليفها رئيس الوزراء الإسرائيلي كي يرتب أموره ويستقر على رأس حكومته الجديدة، وكأن أصحاب هذا الاعتقاد يريدون القول إن في صيغة الصفقة ومضمونها ما يؤثر على موقع نتنياهو ويحفز خصومه وحتى حلفائه للانقضاض عليه.

فات هؤلاء أمران،الأول أنها ليست المرة الأولى التي تتحدث فيها هذه الإدارة عن التأجيل، فقد كررته مرارا، وقبل الإعلان عن انتخابات الكنيست المبكرة التي جرت مؤخرا. والأمر الثاني هو أن منشأ التسريبات إلى وسائل الإعلام حول مواعيد الصفقة هو فريق ترامب الذي يقوم بنفيها لاحقا والطلب من الجميع أن يتريثوا.

والهدف من الأمرين واحد: إبقاء المستهدفين بالصفقة في حالة انتظار، فيما تمضي الخطة الأميركية بخطواتها على الأرض.

الخطورة الأكبر في صفقة ترامب حول تسوية الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي أن خطواتها الرئيسية وإجراءاتها ومواقفها تتعلق مباشرة بالأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، بمعنى أن أي موقف أميركي يمس المستقبل الوطني لهذه الأراضي سيتحول مباشرة إلى سياسة عملية على الأرض من قبل إسرائيل كونها المسيطر بالقوة العسكرية على هذه المناطق.واتضح هذا الأمر مباشرة في تغول حملات تهويد القدس فور اعتراف إدارة ترامب بالمدينة عاصمة للاحتلال. وبعد اعتراف ترامب بالسيطرة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل،أعلنت حكومة الاحتلال مباشرة عن خطة لتوطين ربع مليون يهودي فيه،كما «تشجع» نتنياهو بعد هذا القرار كي يعلن عزمه على ضم الكتل الاستيطانية في الضفة.وإذا كان قد ربط ذلك بفوزه في انتخابات الكنيست،فهذا لا يلغي أن ضم المنطقة (ج) وليس المستوطنات فقط هو في صميم المشروع الاستعماري لنتنياهو الذي التقى مع صفقة ترامب في العناوين والأهداف.

وتتضح جدية مخاطر صفقة ترامب على مستقبل الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة على نحو أكبر مع إصدار إدارة ترامب خريطة جديدة يظهر فيها الجولان السوري المحتل كجزء من دولة الاحتلال الإسرائيلي، وقد وجه الرئيس الأميركي إدارات مؤسسات بلاده الرسمية لاعتماد هذه الخريطة كوثيقة رسمية.

ولذلك، من الخطأ الحديث عن تأجيل الإعلان عن الصفقة لأن فيها ما يتعارض ولو قليلا مع المشروع التوسعي الإسرائيلي،بل هو جزء من آليات تنفيذها. وهذا الحديث موجه بالأساس إلى المترددين في الالتحاق بركب المهللين بالصفقة وسهامها الموجهة نحو عدو افتراضي خلقه اتحاد هواجسهم مع أطماع واشنطن في المنطقة.

ويزيد من خطورة الصفقة الأميركية استغلالها للحروب الدموية الدائرة في غير بلد عربي، وانقسام النظام الرسمي العربي على نفسه واندثار العمل المشترك بين مكوناته.ومع اعتماد واشنطن الدولة العبرية شريكا في تنفيذ الصفقة واقتسام مغانمها، وجد نتنياهو في هذا الأمر رافعة إضافية مكنته من تجاوز خصومه في الانتخابات من جهه، واستخدم الشراكة مع إدارة ترامب في تسريع الحصول على توصيات الأحزاب اليمينية لصالحه من أجل تكليفه بتشكيل الحكومة الإسرائيلية القادمة من جهة أخرى.

من جهة متممة، يرى كل من نتنياهو وترامب في الوضع الفلسطيني القائم عاملا مساعدا على استسهال دحرجة خطوات الصفقة تباعا دون أي اعتبار لردات الفعل الفلسطينية التي تصلهم مبعثرة وباهتة، في ظل واقع الانقسام المتفاقم الذي يسمح لهما بالتعامل مع القضية الفلسطينية بالتجزئة، وعلى جبهات متعددة ومتفرقة.وترى واشنطن وتل أبيب في هذا الواقع أيضا ما يساعدهما على طرح الأزمات الاقتصادية والحياتية الفلسطينية كمشاكل إنسانية لاعلاقة لها بالمسبب الأساسي، الاحتلال.

وينعكس أي تقدم في مسعى تكريس هذا التوصيف للمشاكل الفلسطينية على ملف التطبيع الرسمي العربي مع إسرائيل، من خلال نفي سببية الاحتلال لهذه الأزمات، وبالتالي عدم ربط خطوات التطبيع مع نفاذ حل سياسي ينهي هذا الاحتلال ويجسد الحقوق الفلسطينية،وهي المعادلة التي كانت معتمدة عربيا قبل سنوات.

جميع ماسبق يعبر بشكل مباشر عن خطة تتحرك نحو أهداف معروفة ومعلن عنها من قبل أصحابها، وهي لاتحتاج أي إطار دولي أو إقليمي تستظل بخيمته السياسية كون طرفيها الأساسيين، تل أبيب وواشنطن لاتعترفان أساسا بأي مرجعية قانونية أو أممية ولا تقيم لها وزنا.وإذا كنا نسمع عن مواعيد متدحرجة، مثل خطوات الصفقة ذاتها، فمعنى ذلك أن الإعلان الرسمي الأميركي عن مضمون الصفقة لن يكون إلا مع خطوتها النهائية عند ترسيم الحل الإقليمي، بعدما تستكمل دولة الاحتلال على الأرض مقومات الإعلان عن قيام دولة «إسرائيل الكبرى» لتترك في ما تبقى من الوقت والأرض للفلسطينيين كيانا هزيلا محشورا بين شبكات الاستيطان،وفي الوقت الذي تصبح فيه القدس تحت حمى التهويد وحصار المستوطنين.

وعلى الرغم من هذا السيناريو القاتم الذي تسعى واشنطن وتل أبيب لتحقيقه كاملا ،فإن هناك عوامل أخرى تضع هذا السيناريو أمام استعصاءات جدية أبرزها الرفض السياسي والشعبي الفلسطيني للمشروع الأميركي ـ الإسرائيلي. لكن هذا الرفض يحتاج إلى مايمكنه من أن يصبح مقاومة فعلية ومعركة مفتوحة في السياسة والميدان، ليضع أصحاب هذا المشروع أمام واقع مختلف عما هو قائم. ومدخل هذا الانتقال هو إنهاء الانقسام عبر خطوات متكاملة بدءا بتشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية لفترة محددة تحضر لانتخابات رئاسية وتشريعية وفق قانون التمثيل النسبي الكامل. ولتعبيد الطريق إلى ذلك، ينبغي أن تدعى هيئة تفعيل وتطوير منظمة التحرير إلى اجتماع فوري لإدارة هذه العملية بما يكفل إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني على أسس ديمقراطية، وبما يضمن إعادة الاعتبار للشراكة الوطنية تحت راية البرنامج الوطني التحرري.

ومن الطبيعي بل المطلوب أن توضع قرارات الإجماع الوطني وفي المقدمة قرارات المجلس الوطني في دورته الأخيرة موضع التنفيذ، وأولا القطع مع بقايا أوسلو وقيوده الأمنية والسياسية والاقتصادية وفتح الآفاق السياسية والميدانية أمام المقاومة الشعبية في مواجهة الاحتلال والاستيطان، وتوفير مقومات صمود الشعب الفلسطيني أمام الهجمة غير المسبوقة التي يمثلها المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي الذي لا يخفي أهدافه في تصفية القضية الفلسطينية وشطب الانجازات السياسية الكبيرة التي حققها الشعب الفلسطيني بتضحياته منذ انطلاق ثورته الوطنية المعاصرة.

بقلم/ محمد السهلي