تعتبر الديمقراطية النقابية شريان الحياة للعمل النقابي ومدخلاً للتغيير والبناء، وأحد أهم الأسس التي تشرعنَه، وتمنحه الحصانة والقوة المستمدة من الجماهير النقابية، وعند الحديث عن حريات واستقلالية العمل النقابي لا نستطيع أن نتجاهل الأسس الواجب مراعاتهم للحفاظ الدور والمهمة المناطة بالعمل في ظل الظروف والمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعصف بالمجتمع.
فالديمقراطية النقابية حديثة نسبياً في التاريخ الإنساني، حيث ارتبطت بنشأة وتطور العمل النقابي في نهايات القرن الثامن عشر، وتعد امتداداً للديمقراطية الاجتماعية، والتي لا تقل أهمية عن الديمقراطية السياسية لأنها تهتم بتحسين أوضاع الإنسان المادية، عن طريق إعمال مبدأ العدالة الاجتماعية، وتهدف لتعزيز المساواة بين الأفراد والنقابات بكل أنواعها سواء العمّالية أو المهنية، فهي تستند في عملها بشكل أساسي على تجسيد العدالة الاجتماعية، وحماية مصالح أعضائها، ولعب دور في تعزيز الديمقراطية والمدنية في المجتمع، وتنمية القيم الإيجابية ونشر الوعي وثقافة الديمقراطية في المجتمع من خلال الممارسة والنمذجه والتوعية والمشاركة، فالديمقراطية النقابية ممارسة إنسانية مكتسبة ميدانياً من التجارب المتعددة في الميدان ومعارك النضال النقابي، فإدارة المهام وتطبيق معايير الحوكمة، والإدارة الرشيدة، والنضال السلمي اللاعنفي، التي تخوضه النقابات، يشكل فلسفة وسياسية العمل النقابي، تساهم في تجسيد مفاهيم التعايش والتعامل المشترك والتعاون والعمل الجماعي، وإدارة الاختلاف بشكل حضاري ومنظم في المجتمع، مما يعزز مبدأ التقبل واحترام الرأي والرأي الاخر بشكل متراكم، فالثقافة الديمقراطية تتجسد بشكل تدريجي من خلال الفكرة وتشكيل الوعي، والقيم، والاتجاه، والسلوك، والتجربة والتطبيق والممارسة بما يحقق استقلالية الفرد كإنسان عقلاني له حريته، يتمتع بسلوك متمدن ومتحضر مع بقية الأفراد في المجتمع النقابي المنظم، وقد حققت التجارب النقابية نجاحات كبيرة على مدار التاريخ في تعزيز الوعي الديمقراطي من خلال المشاركة في اتخاذ القرارات والتخطيط والتنفيذ، ومواظبتها على دورية ممارسة عقد المؤتمرات والانتخابات الدورية، لانتخاب القيادات النقابية القادرة على الدفاع عن مصالح الأعضاء، وتحقيق متطلبات العمل النقابي ومصالح الأعضاء في ظل العصرنة والتحديث والتحضر الاجتماعي في المجتمعات وتطورها، وذلك من خلال علاج المشاكل والتحديات بشكل سلمي، وعبر الشرعية والقانونية وبالحوار الاجتماعي والعقلاني المنفتح على الجميع والذي تضبطه اللوائح والنظم والإجراءات متفق عليها بشكل ديمقراطي في بنية التنظيم النقابي، والذي يحكمه العقل الجمعي، فالديمقراطية النقابية سلوك جماعي مسئول عنه كل الفاعلين في العمل النقابي، ويحتاج الى ركيزة واسعة من القيادات النقابية الواعية لأهداف ومسئوليات وأولويات الأمور والبرامج بما يساهم في تحقيق المصالح النقابية بحرية وعلانية بدون أي تدخلات أو خوف من القيام بالدور والوظيفة النقابية، لتحقيق الأهداف المرجوة بحرية واستقلالية، وهذا السلوك الواجب أن يترجم في كل المجالات والعلاقات والمستويات النقابية والإنسانية، وبما تقدم من خدمات وبرامج ضمن خططها التنفيذية التي يحكمها وينظمها النقاش المفتوح ولغة الحوار الإيجابي كأداة فعالة لتسيير العمل المشترك، وبما تعزيز قيم العدالة والمساواة وعدم التمييز بين الأعضاء، وخاصة النوع الاجتماعي، فبدون ذلك تكون الديمقراطية النقابية سيف مسلط على رقاب الأعضاء وأسلوب متعجرف غير مقبول أو مستوعب كمنهج لعمل النقابات ومدى قدرتها على القيام بواجباتها واستكمال رسالتها ودورها ومبررات وجودها التي أنشأت من أجلها.. .
فالنقاش المفتوح والحوار البنّاء في ادارة التنظيم النقابي يعزز الوعي وينمي القيم الديمقراطية ويمنح دروساً مستفادة في الممارسة السليمة للديمقراطية النقابية الهادفة، فالاشتراك في صناعة القرار عبر المستويات النقابية بالحوار والاحترام وجهات النظر، وتقبل الآراء النقاش الموضوعي وحسن الاستماع لبعض، وتقدير الجهود، واستيعاب الآخر، وتقبل الاختلاف ورفض الخلاف، ينمي مفاهيم وقيم الحرية للعضو النقابي، ويعزز قدراته الأخلاقية ووعيه الاجتماعي، فالديمقراطية النقابية تعني أن الأعضاء سواسية ومتساوين بالشروط والواجبات، تميزهم مواقعهم والكفاءات والمهارات، وقدراتهم المتنوعة على الابداع في إدارة العمل، وخاصة في ظل الأدوار التي تقوم بها النقابات لخدمة أعضائها، فالمساهمة الجادة في بلورة الوعي النقابي هو امتداد لطرح المفاهيم النقابية السليمة التي تتمثل في التالي:
- ضرورة مشاركة ومساهمة الأعضاء في العمل النقابي بشكل فعّال وجاد لإيجاد الحلول للمشكلات النقابية والعمالية، خاصة الاقتصادية والاجتماعية، ومن أجل رفع قدرات الأعضاء الاقتصادية والاجتماعية والثقافية نحو البناء والتنمية الوطنية الشاملة، وتعزيز الاستقرار الاجتماعي.
- تعزيز دور النقابات ومشاركتها في رسم السياسات الوطنية وإيجاد الحلول للمشاكل والتحديات والصعوبات والمعوقات للتنمية والتطور مثل: البطالة والفقر، وتدني الأجور، والحق بالتعليم الجامعي والصحة، والغلاء الأسعار...الخ، وهذا يساهم في توسيع مشاركة المجتمع المدني والحكومة لتجاوز ومعالجة تلك المشكلات.
- مشاركة ودمج التنظيم النقابي ووضعه في دائرة الفعل والمواجهة والتحدي لكي يساهم في توسيع قواعده وعضويته ويخرجه من دائرة الحالمين العاجزين عن معالجة التحديات ومواجهة الصعوبات والتي تسببت في عزوف الأعضاء والشباب عن المشاركة الايجابية في النشاط النقابي والتفاعل مع برامجه.
إن تعزيز الديمقراطية النقابية سيساهم في إنجاح العمل النقابي، وسيضع الجميع أمام مسؤولياتهم تجاه أهمية النقابات، ودورها التاريخي بما تشهد من تحولات إيجابية نحو الحوكمة والإدارة الرشيدة والشفافية والوضوح وهنا يجب العمل على عدة محاور لتفعيل الدور النقابي على جميع الأصعدة الاقتصادية والاجتماعي والثقافية من خلال:
- العمل على حماية مصالح الأعضاء ودفعهم نحو المشاركة الايجابية في الفعل الاقتصادي والاجتماعي، ومعالجه العزوف عن النقابي الذي يهدد مستقبل العمل النقابية وديمقراطيته.
- ضرورة تطوير العمل والإعداد النقابي، من خلال تطوير الكادر النقابي واعداد الدراسات المتخصصة والمتنوعة التي تساهم في تعزيز مفاهيم العمل النقابي الديمقراطية النقابية، ووضع الخطط المتطور والمناسبة للبيئة والظروف والامكانيات.
- العمل على تعزيز الوعي النقابي بشكل عصري من خلال نشر الوعي والثقافة النقابية عبء مؤسسات الثقافية ومراكز النقابية، بهدف تجاوز حالة الركود وضعف العمل الى أفكار وخطوات إبداعية تنمي سبل التنسيق بين جميع النقابات لإيجاد تكامل وانسجام بين مؤسسات للعمل النقابي، فتظافر جهود النقابات سيجعلها تلعب دورا فعالاً في علاج المشاكل النقابية المطروحة.
- ضرورة العمل على زيادة نسبة العضوية، والمحافظة على دورية عقد الاجتماعات واستكمال التشكيلات القاعدية، وعقد المؤتمرات ودورية الانتخابات الديمقراطية على قاعدة التمثيل النسبي يساهم في تطوير العمل وتحسينه وتحقيق الأهداف بشكل سلسل وفعال.
- وضع آليات وخطط تساهم في التنسيق والتعاون بين النقابات وفق القوانين والمعايير والحريات، وتضع الجميع أمام مسؤولياتهم التاريخية بعيداً عن نزعات سياسية وتعصب واستقطاب عن أي خلفيات، بحيث يكون هدف الجميع مصلحة الحركة النقابية دون النظر لصراعات وخلفيات سياسية أو فئوية أو مصالح ذاتية وغيرها.....
إن فهم العمل النقابي والحفاظ على ديمقراطيته يساعد في تلمس الدور الحقيقي لوجوده بالدفاع عن مصالح الأعضاء وملامسة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والمساهمة في وضع حلول عملية لها، فعدم وضوح المعنى الحقيقي لدور ومهمة القيادة النقابية، وضعف الوعي بأهمية النقابات في المجتمع، وغياب الديمقراطية، والتدخلات المبرمجة في شئون التنظيم النقابي والمس باستقلاليته، كان له الأثر لما آلت له لأوضاع النقابية الحالية، ولأيماننا ولإدراكنا بأن الدور النقابي له أهمية مؤثر وكبيرة في المجتمع لا يقل أهمية عن المؤسسات الرسمية وغيرها، فمن الضرورة ان يتم تنظيم هذا الدور بالشكل الصحيح والسليم والمخطط له مهنياً ومنهجياً، بما يحافظ على ديمقراطيته وبعده القانوني ومبرر وجوده في الدفاع عن مصالح الأعضاء بما لا يتعارض مع المصالح العليا للمجتمع والوطن، ويضمن استمراريته وتواصله على الأرض.
أخيراً إن ممارسة الديمقراطية النقابية، وعقد الانتخابات الدورية على قاعدة التمثيل النسبي وفق معايير وقواعد تضمن العدالة وتحافظ على الحريات والاستقلالية هو العنوان لإعادة الاعتبار للعمل النقابي، وهذا سيساهم في تعزيز دور الهيئات التشريعية والرقابية التي تشكل حصانة وحماية العمل النقابي السليم وتمهد الطريق لمؤسسات نقابية فاعلة ومؤثرة.
بقلم/د. سلامه أبو زعيتر