التناقض بين الفكر والممارسة في حماية الحقوق العمالية

بقلم: سلامه ابو زعيتر

التناقض والثنائية معادلة كونية لاستمرارية الحياة البشرية، فالتعددية والخيارات المفتوحة تتيح المجال للإنسان للتفكير والابداع والتوسع والمفاضلة بين وجهات النظر لتطوير حياته، وخياراته نحو الافاضل، ولكن؟!! أن يكون التناقض بين الفكر والممارسة في الجسم الواحد، فهذه الحالة تحتاج لإعادة نظر، ومكاشفة حقيقية للتدخل وعلاجها، فهي مرض سلوكي وحالة من الشيزوفرينيا والأنومي وعدم الاستقرار التي تضر بأي كيان يمارسها، هنا وفي هذا المقال سأتناول ظاهرة بدأنا نلمسها في العمل النقابي ونلاحظها بشكل يومي، وهي استمرار انتهاك واهدار الحقوق العمالية والتغول على مصالحهم وتعظيم الأرباح والمنافع على حسابهم، وهذا طبيعي في ظل استمرار حالة الصراع الطبقي مع المشغلين ولكن!! من غير الطبيعي أن يمارس هذا السلوك مؤسسات حزبية تقدمية ومدنية واجتماعية وحقوقية ووطنية، ومن رياديين في العمل الاجتماعي والمدني والسياسي، ومن أصحاب الفكر التقدمي والديمقراطي والوطني، الذين يتصدرون المشهد في النضال الطبقي والاجتماعي والديمقراطي...، وبعيدا عن التجني أو المزاودات، فلا يجوز أن تكونوا رأس حربة في تبني ودعم نضالات الحركة النقابية، ومساندين لحقوق البروليتاريا في صراعها الطبقي؛ وبالممارسة العملية في إدارة مؤسساتكم، تكونوا أسوأ من بعض المشغلين المستبدين والمستغلين في القطاع الخاص الذين يعظمون أرباحهم على حساب دماء وعرق وحقوق العمال وكرامتهم،...

في محاولة لتحليل وفهم واقع هذا النوع من المؤسسات التشغيلية ومدى تطبيقها لمعايير العدالة الاجتماعية وحماية حقوق العمال، نجد هناك انتهاك صارخ وتغييب للدور النقابي، وتغليب المصالح المادية والمنافع على حساب الفكر والايديولوجيا في الممارسة الفعلية في هذا الجانب المتعلق بالعمال وحقوقهم، فهذا التناقض العجيب يدعو لوقفه جادة وضرورة لتقدير الموقف ومحاسبة، وإعادة برمجة الواقع والسلوك، لخلق حالة من التوازن بين الفكر والممارسة، وخاصة بتعزيز قيم ومبادئ العدالة الاجتماعية والحوكمة والحريات والممارسة الديمقراطية، وحماية الانسان كقيمة ونوع ورأس مال اجتماعي منتج، وصون حقوقه الإنسانية والقانونية التي تحفظ كرامته وهنا سألخص بطرح بعض الأفكار بشكل نقدي، والتي يمكن البناء عليها، وتعديل السلوك، والموائمة بين الفكر والممارسة بخطوات عملية لتحسين الأداء، والتطوير الإداري والمهني على النحو التالي:

- على المؤسسات العاملة في العمل المدني والأهلي وخاصة المحسوبة على القوى الديمقراطية والاشتراكية والتقدمية والإسلامية والحقوقية والوطنية، يجب أن تكون نموذجا في إعمال القانون والحقوق والحريات النقابية، وفسح المجال أمام العاملين والموظفين لتشكيل لجان عمالية وأجسام نقابية تمثلهم بشكل مهني، وتمارس حقها في النضال النقابي والاجتماعي بعيدا عن أي تأثيرات حزبية، فاستمرار تغليب المصلحة، وخلط الأدوار الحزبية مع المصالح والحقوق العمالية، وخاصة في تقدير الموقف بالنظر والبت في الحقوق النقابية، يساهم في اهدار وانتهاك الحقوق الفردية والجماعية للعاملين، وهذا ما نلمسه حاليا من خلال ممارسة العمل النقابي وتبني قضايا ومشاكل العمال في ظل هذه البيئة المشوهة، والتي تحتاج لمصداقية ومطابقة بين الفكر والممارسة والقول والفعل..." كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" صدق الله العظيم .

- تعزيز العدالة وصون الحقوق الاجتماعية للإنسان وخاصة العمال، واجب وضرورة للبناء الاجتماعي والوطني - فلا تنمية ولا تطور ولا بناء- بعيدا عن الانسان القادر على القيام بواجباته والمتمتع بصحة قوية في بيئة مناسبة، وهنا أود الإشارة لمسلسل انتهاك الحق القانوني المنصوص عليه في قانون العمل واللوائح الداخلية للمؤسسات، فتناقض عجيب بين القول والفعل يمارس في تلك المؤسسات التشغيلية الممتدة لأحزاب وقوى سياسية وإسلامية ووطنية، فمنها: التقدمية والريادية والحقوقية والخدماتية...الخ، فتحمل شعارات العدالة الاجتماعية والانصاف، وتستنزف الحقوق العمالية الاقتصادية أو الاجتماعية المنصوص عليها بالقانون واللوائح، فظروف وشروط العمل فيها ليست نموذجية أو متميزة عن غيرها وأحيانا أقل بكثير، وعلى سبيل المثال: بعض الأجور للعاملين أقل من الحد الأدنى، وبيئة عمل غير أمنة أو مستقرة، والمعاملة في علاقة العمل في ادنى مستوى وأحيانا تتخطى القيم الإنسانية وتتجاوز الخطوط الحمراء والضوابط الاخلاقية وتمس بكرامة العمال، ...والأسوأ ما لمسناه في هذه الأيام، وهو محاولات تجريد الموظفين من حقوقهم القانونية لحظة انتهاء علاقة عملهم، وتجد القائمين على تلك المؤسسات يستخدمون كل الأساليب والوسائل في محاولة لحرمان العمال والموظفين من أي حقوق وامتيازات ومكتسبات، وتصل أحيانا للادعاء علي العامل والموظف لإدانته وتجريمه؛ في محاولة لملاحقته قانونيا وتغريمه مبالغ مالية كتعويضات للمؤسسة، - غريب وعجيب أمركم إيها التقدميون والديمقراطيون؟! ...عذا!! فمنكم من بلغ باستغلاله واستبداده أجشع الرأسماليين وتفوق عليهم، هنا أقصد من يدعي الديمقراطية والتقدمية والريادية والإنسانية وليس له أي علاقه بها، ويلبس ثوبها الدين والعفة ويتناقض مع فكره بسلوكه اليومي وممارسته الفعلية، هنا ادعو الجميع لمراجعة سريعة وقراءة حقيقية للأوراق بعيدا عن العاطفة، فالأصل أن تكون هذه المؤسسات عنوان للأنصاف والعدالة, وتحمي وتصون الحقوق العمالية بشكل عملي حتى لو كان على حسابها، بالتمييز الايجابي لصالح العامل أو الموظف لتكون نموذجا وقدوة لا سيف مسلط على رقاب العمال هم الأضعف في معادلات العمل والمغلوب على أمرهم في ظل هذه الظروف وعدم التوازن بين العرض والطلب في سوق العمل.

- الأصل تجسيد الإدارة الرشيدة وتطبيق مبادئ ومعايير الحوكمة في العمل، وخاصة التي تتعلق بعلاقات العمل والحقوق، وهنا يجب مراجعة اللوائح والنظم الإدارية والمالية وتعديلها وفق المعايير والقوانين ومبادئ حقوق الانسان لتكون نموذجا حيا، ينظم عمل المؤسسة وعلاقاتها المهنية، وخاصة التي تتعلق بالعمال والموظفين بهدف توفير الأمان والاستقرار الوظيفي، فلا يجوز أن تكون الدعوات والاجتماعات والاجتهادات بقصد لإهدار الحقوق, ووضع الخطط لانتزاع المكتسبات السابقة، ومحاولة تحميل الأوضاع الاقتصادية والعجز المالي في المؤسسات للعمال وتغطيتها على حساب حقوقهم، -ليس هكذا تورد الابل- فالأصل حقوق العمال هي حقوق ممتازة، وآخر ما يمكن المس به في ظل أي تعثر مالي أو ظروف قد تمس ببيئة العمل، فمكتسبات العمال وحقوقهم المالية وخاصة الاجر والمكافأة حقوق أصيلة وذات أولوية... ..

- إن تعزيز مبدأ الثواب والعقاب بشكل مهني ووفق الأصول، لتصحيح وتطوير العمل المؤسساتي في المنشآت التشغيلية ذات الامتداد الحزبي( التي تتبع قوى وأحزاب سياسية وإسلامية ووطنية ) ضرورة وواجب في هذا الظرف، وذلك من خلال أن تعيد تلك القوى والأحزاب والمؤسسات النظر في سياساتها وسبل الرقابة والمتابعة لمؤسساتها، وخاصة فيما يتعلق بالحقوق العمالية وعلاقات العمل، فانتهاك الحقوق الاجتماعية، وصمة عار في جبين مرتكبيها، وستلاحق الجميع، وسيتحمل نتائجها قيادات تلك الأحزاب والقوى والمؤسسات، فالمجتمع والناس قادرين على فهم الأمور والملاحقة والمحاسبة بكافة أشكالها القانونية والسياسية، وخاصة في أي انتخابات قادمة أو في محاولات التوسع بالعضوية الحزبية والامتداد الشعبي.

ان الانسجام بين الفكر والممارسة والتكامل هو ما يحدد الهوية السياسية والوطنية والاجتماعية لأي كيان قائم، وقد حاولت في هذا المقال التحدث بعموميات ونصائح للإرشاد والتوجيه، فالهدف هو التعزيز الإيجابي ومواجهة التحديات وتحويلها لفرص، وعلاج الإشكاليات التي أصبحت ظواهر تعاني منها تلك المؤسسات، والتي تخلط بين الأدوار، وتتجاوز الخطوط الحمراء والاخلاقيات المهنية بانتهاكها حقوق العمال، برغم تبنيها شعارات العدالة الاجتماعية، وفهمها الحقيقي لطبيعة الصراع الطبقي، الا انها تمارس عكس قناعاتها وأيدولوجيتها وما تنادي به، فالأصل أن تكون ريادية في حماية وصون الحقوق، ونموذجا وعنوانا يقتدى به في تنظيم علاقات العمل وحماية مصالح العمال وحقوقهم، وتقوم بتسهيل الإجراءات لإنشاء نقابات ولجان عمالية مهنية فيها لتدافع عن مصالح من تمثلهم بشكل مجرد ومستقل وبحرية بعيدا عن أي حسابات، فحتمية العمل النقابي هي الأصل في الدفاع عن حقوق العمال وكشف الحقائق وفضح من ينتهك الحقوق ويظلل الناس بشعارات مزيفة.

أخيرا على العاملين والموظفين ممارسة حقهم بالعمل بشكل جدي لتشكيل لجان نقابية ونقابات عمالية مهنية مستقلة بعيدة في إداراتها عن اتجاهاتهم الحزبية وميولهم، لتكون قادرة على الفصل بين الانتماءات السياسة ودور النقابي، بحيث تستطيع الدفاع عن مصالح وحقوق العاملين والموظفين في تلك المؤسسات، والتواصل مع النقابات العامة القطاعية والاتحادات النقابية والعمالية لبناء قوة عمالية قادرة ومؤثرة للدفاع عن الحقوق وصون الإنجازات، وبهدف خلق حالة من التوازن بين الكفاءة والفعالية الإدارية، والحقوق العمالية ولتحسين شروط وظروف العمل، ولتكون رافعة وطنية ومدنية لتحقيق التنمية والتطوير والبناء الوطني.

بقلم/ د. سلامه أبو زعيتر