لا يمكن الاستخفاف بما يطرحه البعض من بحث عن أطر ومرجعيات تمثيلية بديلة، كما سيكون من سوء التقدير اعتبار تلك المحاولات عابرة. وربما تشكل تلك الدعاوى مخاطر لا تقل في مستوياتها عما يشكله التهديد الخارجي، بل إنها تتساوق مع أهداف أكبر تقودها إسرائيل من اجل تفتيت التمثيل الفلسطيني وجعله مادة للصراع وعدم الاتفاق، وبالتالي طي صفحة إنجاز كلف الفلسطينيين الكثير من الشهداء والجرحى والأسرى والنضال الدبلوماسي المرير. وربما أيضاً افتراض أن كل ذلك صدفة سيكون ضعفا في الفهم حيث إن أصل الأشياء افتراض هذا الترابط بين تلك الدعاوى التي تصدر من قبل جهات فلسطينية في ظل إصرارها على رفض كل مقترحات تسوية الخلافات الداخلية بما يشمل دمجها بشكل كامل في المؤسسات التمثيلية.
هناك افتراض ساذج يمكن تلمسه في تصريحات بعض شخصيات الإسلام السياسي في فلسطين وهو الوعي المؤسس ربما لتفكير حركة حماس بخصوص منظمة التحرير وهويتها التمثيلية وصفتها الجمعية، وهو يرتكز على الظن السيئ بكل شيء وجد قبل أن يضطر الإسلاميون للمشاركة في النضال الوطني ضد المشروع الصهيوني بعد أن ظلوا لعقد بعد النكبة يرفضون الانخراط في شرف المعركة. التاريخ يبدأ من لحظة وجودهم الحديث. وهو افتراض يحمل تشوهات جينية لمفهوم الهوية والنضال ومقاصده. وربما هذه التشوهات عكست نفسها أكثر بعد أشهر قليلة من انطلاقة حركة حماس بعد أن اندلعت نيران الانتفاضة الأولى في كل نواحي الضفة الغربية وقطاع غزة. فالصراع على التمثيل بدأ من اللحظة الأولى حين كانت "حماس" تصر أن تجعل موعد الإضراب الشامل يوم الثامن من كل شهر فيما التنظيمات الوطنية كانت تعلن التاسع منه موعداً للإضراب وهو يوم اندلاع الانتفاضة واستشهاد شهيد الانتفاضة الأولى حاتم السيسي. وربما بتذكر أن "حماس" لم تدع لإضراب خاص بها في الأشهر الأولى يمكن استدراك كيف تم افتعال الأزمة من اجل التأكيد على تمايز مفترض يقصد من ورائه افتعال صراع وهمي على الشرعية والتمثيل. لم تكن قصة إضراب بل قصة مفهوم أعمق. الشيء ذاته ينسحب على ما قامت به "حماس" بعد فوزها في الانتخابات التشريعية في العام 2006 وكيف بدأ التاريخ من تلك اللحظة الأثيرة.
بعبارة أخرى، فالقصة ليست قصة تواريخ بل هي قصة اكبر ترى في كل ما سبق هباء لا مكان له ولا يجب أن يظل موجوداً. وربما الحوارات الوطنية الكثيرة التي بدأت بين قادة القيادة الموحدة للانتفاضة ونشطاء "حماس" المولودة جديداً وقتها لتوحيد الجهود والطاقات والعثرات الكبيرة التي منيت بها وصولاً للحوار السياسي بين منظمة التحرير و"حماس" العام 1996 في محاولة لشملها ضمن التمثيل الفلسطيني وإفشال "حماس" لتلك الحوارات ليست إلا برهاناً على رغبة "حماس" في تجاوز الأطر والمرجعيات الموجودة. لاحظ مثلاً حين فازت "حماس" في الانتخابات التشريعية التي هي تحت سقف "أوسلو" وشكلت الحكومة العاشرة وبعد ذلك الحادية عشرة ومن ثم أطرها الحكومية بعد انقلاب حزيران 2007، كانت "حماس" تشير لنفسها بوصفها الحكومة ولم تستخدم كلمة السلطة وكأن هذه الحكومة جاءت من الفراغ فهي ليست حكومة السلطة بل حكومة "حماس" فقط. إن هذا البحث المتقصد عن التجاوز ليس إلا الوعي المؤسس للبحث عن الإزاحة والاستبدال. فالقصة ليست بالنفي والرفض بل بما يتم السعي وراءه من أهداف أكبر لفرض أطر جديدة ومرجعيات جديدة وبالتالي تقويض كل السابق من اجل كل هذه الأطر والمرجعيات الجديدة. لا يمكن اعتبار كل ذلك صدفة إلا إذا افترضنا أن التاريخ ومجرياته يحدثان صدفة.
لا يمكن التساهل مع هذا الإصرار خاصة في ظل ما تتعرض له القضية من محاولات تقويض وتفريغ من مكوناتها الأساسية وما تحاول إدارة ترامب فرضه من سياسات وابتزاز. عموماً لطالما كان احد أهداف إسرائيل تقويض التمثيل الفلسطيني وتمزيق وحدة الحال الفلسطينية. ولم يوجد شعب في التاريخ يتنازل طواعية عن وحدة تمثيله ولم توجد جهة حتى ساذجة تخبرنا عن تجارب الشعوب تسعى جاهدة لتمزيق مرجعيات تمثيل شعبها. لم تبدأ محاولات تشتيت التمثيل الفلسطيني بعد النكبة إذ إنها وجدت قبلها حيث سعت إدارة الاحتلال البريطاني ومندوبها والحركة الصهيونية على العمل على تفتيت التمثيل الفلسطيني وسعت وراء تشجيع وجود مرجعيات مختلفة بغية تفتيت النضال ضد مشاريع الإحلال وسرقة الأرض.
وربما لأن الإسلام السياسي في فلسطين (وربما في غزة فقط) بممثلته "حماس" لم يبذلوا جهداً ولم يقدموا دماء في النضال من اجل وجود تلك المؤسسات بسبب وقوفهم لعقود يرفضون النضال ضد الاحتلال فإنهم لا يدركون قيمة تلك المؤسسات ولا يعرفون ما تم بذله من معارك وما صعدت إلى السماء من أرواح زكية من أجل وجودها وتثبيتها. هل يبرر هذا ما يجري؟ بالطبع لا. لكن الأخطر إذا كان ما يجري يخدم أهداف العدو وقتها لا مجال للسذاجة. لأن السذاجة وقتها تصبح رديفاً للتواطؤ وربما المؤامرة.
عموماً، ومع هذا وربما تجاوزاً له فإن البحث عن المصالحة يجب أن يظل دائماً أولوية على قاعدة أن المصالح الوطنية ومقاصد نضالنا الوطني اكبر واهم من نوازعنا الذاتية والحزبية. لكن يجب أن يظل الحافظ على وحدانية التمثيل والتمسك بالمؤسسات الوطنية كإنجاز لا يمكن التنازل عنه هدفاً لا مساومة عليه. فالشعوب تسعى وراء من يرفع رايتها لا من يمزقها.
بقلم/ عاطف أبو سيف