مخيم اليرموك، أول مخيم وتجمع فلسطيني على الإطلاق يشهد مسيرات تشييع الشهداء في الثورة الفلسطينية المعاصرة، وعموم الحركة الوطنية الفلسطينية. وكانت مقبرة الشهداء القديمة في اليرموك أول مثوى لشهداء فلسطين خارج أرض فلسطين التاريخية. حيث أقيمت في مخيم اليرموك قرب حارة المغاربة وعلى حدود قرية يلدا في حينها، ودفن فيها أول شهيدين هما الشهيد على الخربوش من عرابة البطوف، والشهيد مفلح السالم من صفورية، من الكتيبة الفلسطينية (68) العاملة في الإستطلاع الخارجي في الجيش العربي السوري، كان هذا منتصف العام 1964، وقبل ذلك كان يدفن الفلسطينيون شهدائهم من العاملين في الجيش العربي السوري وغيره قبل هذا التاريخ في مقابر مختلفة كان منها مقبرة الشهداء في الدحداح. بعد مقبرة الشهداء الأولى في اليرموك، قامت مقبرة الشهداء الثانية في مخيم الوحدات في عمان بالأردن، وبعدها المقبرة الثالثة في بيروت.
واول من دُفن من الشهداء في مثوى شهداء اليرموك كان الشهيد مفلح السالم من صفورية قضاء الناصرة، والشهيد علي الخربوش من عرابة البطوف، وهما من سكان حارة الفدائية في مخيم اليرموك، وقد استشهدا في صفوف كتيبة الإستطلاع (68) التابعة للجيش العربي السوري أثناء قيامهم بمهمة شمال فلسطين في الجليل الأعلى، وقد تمكنت باقي المجموعة من سحب جثتي الشهيدين، كان ذلك بداية العام 1964. الشهيد الثالث في مثوى شهداء اليرموك كان الشهيد الملازم أول محمد حشمة الذي أستشهد ومعه الشهيد النقيب يوسف عرابي بحادث مؤسف في مقر لحركة فتح في الشعلان، وقد دفن حشمة في اليرموك فيما دفن الشهيد يوسف عرابي في مقبرة الشهداء بالدحداح بالقرب من منزل ذويه... وكذا توالت قوافل الشهداء، فكانت قافلة كبرى لعدد منها شارك بها الرئيس ياسر عرفات في شباط/فبراير 1967 وهي المرة الأولى في حياتي التي شاهدت بها ياسر عرفات، وأذكر من الشهداء في التشييع المذكور الشهيد منهل شديد من علار قضاء طولكرم.
في مثوى شهداء اليرموك المئات من الشهداء الذين سقطوا على دروب العودة لفلسطين، وليسوا جميعهم من الفلسطينيين، بل هناك عرب وأجانب. وفي المقبرة ذاتها هناك قادة في مسار العمل الوطني الفلسطيني من الذي شيعوا في جنازات ضخمة جداً، وشارك بها الرئيس ياسر عرفات، وفي واحدة منها شارك الرئيس الراحل حافظ الأسد في تشييع الشهيد زهير محسن قائد منظمة الصاعقة.
من مخيم اليرموك بدأت أولى مواكب الشهداء في الثورة الفلسطينية المُعاصرة، ومن مخيم اليرموك إنطلقت زغاريد النساء في مواكب الشهداء. فكانت تلك الزغاريد التي سَمعتُها لأول مرة في حياتي عندما كنت في طفولتي وفتوتي ذات وقعٍ خاص وتأثير سحري. تلك الحالة التي تَحدث عنها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في خطابٍ شهير له عام 1968 عندما قال "إن الشعب الفلسطيني هو الشعب الوحيد في العالم الذي تُزغرِدُ فيه النساء لمواكب الشهداء".
كان موكب تشييع شهداء مُعسكر الهامة في شباط/فبراير 1967 قبل حرب حزيران/يونيو 1967، موكب تشييع الشهيد منهل توفيق شديد من مؤسسي حركة فتح وجناحها العسكري قوات العاصفة ورفاقه الشهداء، الموكب الكبير الذي ترك إنطباعاته وتأثيراته في نفوس الناس، وأحيا في دواخلهم حلم العودة لفلسطين. ففي
ذاك الموكب ظهر الفدائي الفلسطيني في العرض العسكري العلني الأول للثورة الفلسطينية المعاصرة، العرض الذي رافق موكب التشييع، وظهر اللباس المُرقط، وبدلات الفوتيك، ذاك اللباس الذي كان قد ظَهَرَ في العالم إبان الحرب الكورية عام 1956، كما في ظهور البنادق المُختلفة في العرض العسكري إياه (بور سعيد، طومسون، كارلو، والقليل من الكلاشنكوف ..)، فيما تَقَدَمَ موكب التشييع قيادات تاريخية كان على رأسهم الشهيد الرئيس الراحل ياسر عرفات وابو علي اياد وغيرهم ... مواكب التشييع مَحمولة على الأكتاف، وبعضها على السيارات العسكرية، او على عربة المدفع، وفي مقدمتها العروض العسكرية، وفرقة الموسيقى العسكرية، وأناشيد الثورة والحانها. ومنها نشيد (جابو الشهيد .. جابوه .. يافرحة أمه وأبوه...).
كانت مسيرات تشييع الشهداء، لوحة مُدهشة عن عمق انتماء فلسطينيي سوريا إلى قضيتهم المُقدسة، اختَلِطُ فيها كل شيء، الوطنية الفلسطينية، والهوية وفلسطين، وعظمة وأسطورة هذا الشعب الصغير في تعداده، الذي مازال يَخرُج من محنةٍ الى محنة دون أن يموت أو يذوبَ كما ذابت وانصهرت شعوب البلاد الأصلية بأكملها في معمعان مأسيها في القارة الأمريكية وأستراليا ونيوزلندا على يد الغزاة البيض قبل 500 عام.
بقلم/ علي بدوان