الكتاب: طار العرس بالريح (شعر بالمحكي)
شعر: جمال عبده –البقيعة الجليلية التي اشتهرت بأنها قرية الشعراء
وصلني بالبريد مغلفٌ متوسط الحجم ارسل من مكتب محاماة في البقيعة، لوهلة، قبل ان أفتح المغلف، أمسكتني الحيرة، من يدعي ضدي من قرية البقيعة؟
عرفت ادباء عديدين من قرية الشعراء البقيعة، التي يمكن وصفها بواحة الشعراء، بعضهم رحلوا قبل الأوان، مثل الشاعر المبدع سميح صباغ، الكاتب، المفكر والشاعر سالم جبران، استاذي ورفيقي في عالم الصحافة والفكر. الى جانب شعراء مبدعين آخرين اطال الله اعمارهم وابداعهم، منهم الشاعر الرائع حسين مهنا. فهل تجاوزت حدودي مما يحوج مكتب محامين؟
فوجئت لمحتوى المغلف حيث وجدت كتيبا صغير الحجم، عبارة عن ديوان شعر باللغة المحكية لشاعر لم اقرأ له مسبقا، يعمل بالمحاماة ويكتب الشعر الفصيح والشعر المحكي (ربما يقدم دعاويه للمحكمة شعرا ؟) ناشط بالمجال السياسي، فيروس يصيب كل مواطن عربي أصيل في وطني، كيف ولقمة خبز تدخل أفواهنا مجبولة بالنضال والصمود والتحدي لسلطة لم يكن في حسابها ان نبقى في وطننا وأن نحافظ على لساننا العربي، على انتمائنا القومي وعلى رابط الثقافة مع شعوبنا العربية، لكننا جبلنا من طينة مميزة، فلسطينية عُطرت بزهور الجليل وتسلقت قمة الجرمق وصلب عودها بهواء الكرمل العليل وتراب مرج ابن عامر.
شعرت بالراحة لأن البقيعة موطنا للأدب وليست مصدرا للمتاعب ومهما تشوهت بلادنا بأسماء غريبة (شوهت الأسماء والتاريخ) الا ان حبنا لأرضنا لا يتغير، عبر شاعرنا سالم جبران عن عقيدتنا الوطنية يوم قال: "كما تحب الأم/ طفلها المشوه/ أحبها/ حبيبتي بلادي". وقال شاعرنا حسين مهنا: "البقيعة قريتي وكل قرية في بلادي بقيعة" وقال ايضا: "على هذه الأرض نبني / كما لا يحب الغزاة / ونرعى على مهل مجد أجدادنا".
التعبير الشعر المحكي يعني الشعر المنظوم باللهجة العامية أو الدارجة، البعض يستعمل تعبير الشعر العامي.
الشاعرة السورية رحاب خداج وصفت الشعر المحكي: أن الشعر المحكي واللهجة العامية هو صورة طبق الأصل عن ملامح أي بلد ولا يمكن لأحد أن يلغي ملامح وجهه، او الاستغناء عن هذا اللون الشعري الجميل وانه لا يمكن لأي كان أن يستغني عن اللهجة العامية والمحكية والتي ينطلق منها الشعر المحكي، الذي يسود في الكثير من قرانا ومحافظاتنا وبلداننا لذا يعتبر بمثابة صورة طبق الأصل عن ملامح هذا البلد فهل يستطيع أحد أن يستغني عن ملامحه؟
رغم ان اطلاعي على هذا اللون الأدبي ليس بالمستوى المطلوب، الا اني ألاحظ ان الشعر الشعبي، المحكي والزجل يحتل في بلاد الشام التاريخية، التي تشمل سوريا لبنان وفلسطين، مكانة مرموقة وشعبية، ضاهت أصناف الأدب الأخرى من الشعر الفصيح والأدب النثري.
صحيح ان هذا الشعر، او هذا الأدب، يظل ادبا محليا للهجة المحكية في منطقة جغرافية محددة، هي غيرها في منطقة أخرى، ربما نحن قريبون من فهم اللهجة المحكية المصرية، إذ شكلت مصر تاريخيا مركز العالم العربي ثقافيا وتنويريا وأمل ان تستعيد دورها بالتحرر أولا من الردة المعادية للتنوير. نستصعب مثلا فهم اللهجة المحكية في العراق ولا نفهم اللهجات المحكية في السعودية والخليج او المغرب العربي.
ربما يكون الزجل اللبناني وهو أيضا يمكن وصفه مجازا بالشعر المحكي، لكن له قوانينه الخاصة وهو أكثر انتشارا من الشعر المحكي، بحكم خصوصية هذا الشعر وتميزه وتحوله الى هوية ثقافية مميزة للبنان خاصة وكونه شعرا قابلا للغناء (يلقى غناء) مما يسهل حفظه.
ما هو تأثير العولمة على الشعر المحكي؟ من الواضح اننا اليوم في عصر تزول فيه الحواجز الثقافية، فهل باستطاعة الشعر المحكي ان يتجاوز محليتة؟
طبعا هذه المقدمة الطويلة ليست الا طرحا لأفكار تراودني منذ فترة طويلة، ربما الرغبة لدى شعراء الجيل الجديد بأن يتجاوز شعرهم محليته الى الفضاء العربي الأوسع، يبعدهم عن الشعر المحكي وما يحمله من قدرات تعبيرية يعجز عنها الشعر الفصيح احيانا.
أكثر ما قرأت من شعرنا المحكي (الشعبي) كان قريبا للخطاب المباشر، والدوران داخل بوتقة ضيقة من المواضيع، بعضها عن العشق واللوعة وبعضها عن جمال الطبيعة وحب الوطن، لذلك بقي الشعر المحكي بعيدا عن الانطلاقة التي حدثت في شعرنا الفصيح، الذي وصل الى العالمية دون ان يخرج من رابطه الفلسطيني!!
في السنوات الأخيرة لفت انتباهي الشاعر والصديق سيمون عيلوطي برقة المعاني وجمالية الصور الشعرية وحسن اختياره للمضامين، رايت لديه انطلاقة مميزة تستحق الانتباه، لكننا في عصر مليء بالصراخ الشعري، المفاجأة كانت حين قرات تقييما من الأديب والمفكر الفلسطيني د. أفنان القاسم (مقيم في فرنسا) حين كتب عن سيمون عيلوطي:" كفريدة فيما يخص القصيدة الفلسطينية نذكر القصيدة العامية لسيمون عيلوطي، وبالضبط بسبب اللهجة العامية التي حمته من كنية شاعر المقاومة، ارتقى شعره إلى مستوى دراميّ عال، وجيّر لحسابه ما يدعى الزجل منذ الأندلس، فأضفى المتواصل لديه قيمة جديدة على كل الشعر العامي".
اذن يمكن القول ان قصيدة الشعر المحكي تملك مميزات يفتقدها الشعر الفصيح، وهذا ما تبين لي أيضا من ديوان الشاعر (المحامي) جمال عبده، وارجو ان لا أتعرض بسبب مقالتي هذه لدعوى قضائية، اذا اتضح للمحامي الشاعر، أو الشاعر المحامي أني تعديت على حقه في الإبداع الشعري المحكي او نقدا سلبيا لبعض قصائده.
لذلك انا مضطر للإعلان عن إعجابي بديوان جمال عبده، اولا من منطلق ان لا أتعرض للمقاضاة الجنائية، ثانيا لأنه حقا أمتعني بشعره المحكي، بجمالية تركيباته اللغوية وسحر صورة الشعرية ولتذهب المحاماة الى الجحيم، كم نحن بحاجة الى شعراء بمستوى جمال عبده.
يا موشحة خدّ السما بالغيم
عطشان قلبي
خْطَيّ
طوّل بعين الشمس
ردّي كفوفك فيّ
صليت استسقي سبع مرات
ورقصت بالجرة
لا طل وجهك
ولا نزل الشتا
وبعدا خدود الورد مصفره
وبعدني متأمل بهالغيم
دخلك يا صيف
تأخِّر الجيّي عَلينا شويّ
هذه قصيدة "استسقاء" جعلها هوية للديوان عندما سجلها على الغلاف الأخير. هي حقا تعبير كامل عن شفافية اللغة، وفنية تشكيل الصور الشعرية، ورقة العبارة وانسجامها مع المتلقي.
في قصيدة جدولتين، اشفقت على المحامي ولم أشفق على الشاعر، تخيلت انه في دعوى ضد صاحبة "جدولتين"، بالتأكيد سيخسر القضية عمدا:
لما قْبالي تْبَيّني
بابتسامة شيطني
وبالجدّولتين
قديش بتمنّى
يصير قلبي مشبك ملون
لشعراتك
وكفوفي
بكلتين..
ربما ستُتَّهم أيضا يا حضرة الأستاذ المحامي جمال عبده بالمضايقة الجنسية، فكن على حذر من قريحتك الشعرية وبيني وبينك قل ما تشاء اذا كان بهذا الجمال.
في قصيدة "ندى" نقرأ:
ليش بتشوفي الندى فكرك
كل صبح فوق مخدة الوردات
هذي دموع القمر
بالليل يبكي قهر
كيف تا عرشو أخذتي
وصاورا فيكي يشبهوا الحلوات
اعترف انني امام شاعر استطاع ان يدخلني لصميم صوره الشعرية، مثيرا في نفسي أجمل الأحاسيس، كم هي ساحرة لغتنا اذا شكلتها ايدي فنان.
قصائده الوطنية لم تصل الى جمالية الغزل ورقته. كانت خطابيتها قوية، الشعر والخطابة عدوان، هذه القصائد تذكرني بما يعرف بالشعر المهرجاني، في فترة تاريخية كان للشعر المهرجاني في أدبنا الفلسطيني داخل اسرائيل وزنا ثقافيا هاما، اليوم تلاشي دوره.
جمال عبده ينضم للتشكيليين الشعراء الذين تقتصر موادهم الأولية على اللغة وصياغة الصور اللغوية، لمن يتقن هذا الفن يتفوق على أفضل الكاميرات الرقمية، ليس بنقل الصور فقط انما بنقل الأحاسيس للقارئ عبر الصور الشعرية والروح الخصبة بالكلمات وجماليات الصياغة التي تتسرب مثل المياه المثلجة الى نفس القارئ العطشى من قيظ صحراء شعرنا.
عزيزي الشاعر المحامي، إن أعددت دعوى بالشعر المحكي ستخسرها بالتأكيد، وستربح إن أعددتها عن المرأة التي سحرت شعراء العرب منذ وقفوا يبكون على أطلالها حتى صارت تلبس الحرير والتفتا اليوم وتكشف من سحرها أكثر مما تخفي، ستربح انت مكانة بين الشعراء، وتربح ثقافتنا شاعرا، أين يا ترى يكون نجاح المحامي الذي أخلص اولا وأخيرا لأدبه وشعره!!
نبيل عودة